حين ينهار كل شيء كيف يظل الفلسطيني واقفا؟
اكتب هذه الكلمات وأنا أشعر أن شيئا ثقيلا ينحدر داخلي وكأنني أحاول أن ألتقط ما تبقى من إرادة في هذا العالم المزدحم بالألم كلما نظرت إلى نفسي في المرآة أدركت أن هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها نحن متعبون مرهقون محبطون نبحث عن يقين يختفي وعن أمل تتلاشى ملامحه كل يوم ومع ذلك أجدني أكتب ربما لأن الكتابة آخر ما يملك الإنسان عندما تضيق به الحياة وهذا ما يجول في ذاكرة كل فلسطيني سواء كان في غزة المحاصرة أو في الضفة التي تبتلعها القيود يوما بعد يوم شعور واحد ذاكرة واحدة وجع واحد وضباب واحد يغطي المشهد كله الوضع ليس واضحا ليس مفهوما ليس منطقيا غزة اليوم ليست مكانا للعيش بل امتحانا للإنسانية بيوت مهدمة خيام لا تمنع بردا ولا حرا غذاء لا يكفي طفلين حياة تتآكل وأصوات تصرخ في الفراغ العالمي هل سيستمر هذا؟ أم أن ساعة الانفراج قادمة رغم كل شيء؟ ولماذا يبدو العالم وكأنه اعتاد رؤية الدم الفلسطيني؟ ولماذا يصمت حين تكون الأرواح في غزة معلقة على حافة الحياة؟ ورغم هذا الإحساس المر أؤمن بشيء واحد الاحتلال سينكسر لماذا؟ لأن التاريخ قال ذلك قبلنا ولأن الشعوب التي مرت بما نمر به لم تبق تحت الركام إلى الأبد اليابان نهضت من رماد الحرب ألمانيا انتشلت نفسها من الخراب الأخلاقي والسياسي رواندا حولت الإبادة إلى مشروع مصالحة فيتنام صنعت من جراحها اقتصادا صاعدا فهل يمكن لشعب أن يظل أسيرا للألم إلى الأبد؟ أم أن لحظة التحول قادمة مهما طال الزمن؟ كل هذه التجارب تخبرنا أن الشعوب التي تجرد من كل شيء قد تولد من جديد بشكل أقوى وهذا ما يجعلني أرى الفلسطيني اليوم رغم جرحه رغم انكساره الظاهري يحمل شيئا أكبر من الوجع يحمل ذاكرة لا يستطيع أحد محوها وهذه الذاكرة إن بقيت تكسر أي احتلال مهما طال ومهما بدا قويا لكنني في الوقت نفسه وأنا أكتب من المهجر أدرك أن الفلسطيني الذي يعيش بعيدا عن الوطن يعيش مأساة أخرى صامتة خاصة داخلية لا ترى بالعين ولكن تشعر في القلب نحن هنا في الخارج نحمل غزة في رؤوسنا كل يوم نفتح الأخبار كما لو أننا نفتح جرحا جديدا هل يستطيع قلب الإنسان أن يحتمل كل هذا؟ وهل يمكن لروح فلسطيني يعيش في المهجر أن تنفصل عن روح شعبه في الداخل؟ نرى الأرقام والصور والفيديوهات ونشعر أنها ليست صورا بل امتداد طبيعي لروحنا نحن نعيش في عالم آمن نسبيا نعم لكن داخلنا عالم آخر مشتعل طوال الوقت نحن مهاجرون نعم لكننا لسنا خارج الحكاية نحن بطريقة ما جسر بين الألم هناك والأمل هنا نحاول أن ننقل الصوت أن نرفع الذاكرة أن نكون
صدى لأولئك الذين يعيشون تحت القصف وكلما وقفنا أمام المرآة نسأل أنفسنا كيف ستنتهي هذه المأساة؟ ومتى سيصل شعبنا إلى بر الأمان؟ ولماذا يشعر الفلسطيني هنا بأنه يعيش حربين في آن واحد حرب المكان الذي يعيش فيه وحرب الوطن الذي يعيش فيه قلبه؟ وما يرهق الفلسطيني في المهجر هو أنه يعيش في مكان يرى فيه العالم طبيعيا بينما قلبه يعيش في مكان آخر تماما هو يعيش في مدينة باردة لكن داخله حرارة الحرب يجلس مع أصدقائه لكن داخله عائلة تنزح في غزة يشرب قهوته لكن داخله يد ترتجف تبحث عن ماء يعيش مستقبلا هنا لكن ذاكرته معلقة بماض لم ينته هناك وبين الداخل والمهجر تتشكل مأساة من نوعين مأساة يعيشها من يركض بين الحجارة والغبار ومأساة يعيشها من يزدحم قلبه بذكرى وطن لا يغادره والفلسطيني هنا وهناك يلتقيان في نقطة واحدة كلاهما يقف أمام المرآة ويسأل كيف سنخرج من هذا الظلام؟ كيف سينتهي هذا الفصل القاسي من تاريخنا؟ كيف سيتحرر الطفل الذي لم ير يوما دون حرب؟ كيف ستشفى غزة من هذا الجرح الطويل؟ وهل يمكن لشعب عاش كل هذا أن يتوقف عن الإيمان بالحياة؟ وأنا أكتب أعرف أن الإجابة ليست بيدي لكنه من الواضح أن الشعوب التي تحمل ذاكرتها لا تموت وأن شعبا مثل الشعب الفلسطيني الذي عاش مئة عام من المقاومة والصبر سيجد طريقه يوما ما قد يكون الطريق طويلا نعم لكن النهاية ليست في يد الاحتلال ولا في يد العالم بل في يد شعب يعرف كيف يقف حتى عندما ينكسر وهكذا نعيش نحن أبناء المهجر كامتداد للداخل نحمل الحالة ذاتها لكن على شكل سؤال دائم خوف دائم وأمل دائم أيضا كأننا نعيد تذكير أنفسنا كل يوم هل ما يحدث في غزة مجرد مأساة؟ أم أنه معركة طويلة ضد الزمن وضد النسيان وضد الظلم؟ معركة بدأها أجدادنا ويكملها أهلنا في الداخل ونحمل نحن صورتها هنا في الخارج كمرآة ثانية للحكاية وفي النهاية مهما طال الليل ومهما اشتد الجرح ستبقى تلك الحقيقة ثابتة الاحتلال مهما بلغ جبروته سينكسر لماذا؟ لأن الحق معنا ولأن الشعوب التي تقتل أحلامها تعود لتصنع من الألم مستقبلا جديدا وسيكون لنا هذا المستقبل مهما طال الطريق