بين النقد والاتهام : أين تقف الحقيقة في توصيف القيادة الفلسطينية؟

2025-12-01 13:05:25

ليس جديداً أن تصدر عن شخصيات فكرية مرموقة مواقف نقدية تجاه أداء القيادة الفلسطينية، فالنقد - مهما كان قاسياً - جزءٌ من الفضاء السياسي لأي حركة تحرر. لكن وصف القيادة الفلسطينية بـ"المرتزقة"، حتى لو جاء من مؤرخ بحجم البروفيسور رشيد الخالدي، لا يعني أنه توصيفٌ منزَّه عن التقدير أو فوق النقاش. الفكر لا يتحول إلى نصٍّ مقدّس لمجرد أن قائله ذو مكانة ، كما أن الوطنية لا تُقاس بمدى حدّة المفردات، بل بمدى دقة التشخيص وقدرته على إصلاح ما هو قابِل للإصلاح.
أولًا: القيادة ليست فوق النقد ، لكن الاتهام شيء والتجريح شيء آخر .
نعم، قد يكون هناك خلل حقيقي في بنية القيادة الفلسطينية: ترهّل مؤسسي، غياب انتخابات، تضارب مصالح، ضعف في إنتاج مشروع وطني جامع. هذه حقائق لا يمكن القفز عنها. لكن تحويل الحالة إلى توصيف اختزالي من نوع "مرتزقة" يضيّع جوهر النقاش ويفتح الباب للشيطنة بدل المحاسبة. القيادة الفلسطينية - مهما اختلفنا معها - ليست جسماً غريباً على الشعب، بل نتاج تاريخ طويل من النضال والدم والشهادة والسجون والعمل السياسي في أصعب الظروف.
والمؤسسات القائمة اليوم، رغم ضعفها، ليست دمية بلا إرادة ، هي تعيش بين فكي كماشة: احتلال يضيّق الخناق، وبيئة دولية تمنع أي قرار وطني مستقل من دون ثمن باهظ.
ثانياً: الاتهام يغفل السياق البنيوي الذي تعمل فيه السلطة
السلطة -سواء أحببنا ذلك أم لا - تعمل في بيئة قهر يومي:

احتلال يتحكم بالحركة والموارد والاقتصاد والجباية.

انقسام سياسي استنزف المجتمع لسنوات.

مجتمع دولي يفرض شروطه على كل ملف من رواتب الموظفين حتى حركة البضائع.

في هذا السياق، من الطبيعي أن تظهر أخطاء وانحرافات، لكن من غير المنطقي مقارنتها بسلوك المرتزقة - المرتبطين تاريخيًا بخيانة وطنية صريحة - وكأن القيادة تتعمّد بيع القضية.
نقد الفساد شيء، واتهام القيادة بأنها تعمل لحساب "الآخر" شيء آخر تماماً.

ثالثاً: هناك من يعمل داخل السلطة يومياً لحماية ما تبقّى من المشروع الوطني
بعيدًا عن الأضواء، هناك آلاف الموظفين، الضباط، المعلمين، الدبلوماسيين، والأمنيين يعملون بجهد حقيقي لحماية المجتمع، وتثبيت الهوية، والدفاع عن القضية في المحافل الدولية، وإبقاء المؤسسة الفلسطينية - بكل علّاتها - قائمة. هؤلاء ليسوا مرتزقة، بل أبناء شعب تحت الاحتلال يحاولون الحفاظ على نبض الدولة المقبلة.
الخلل موجود، صحيح. وهناك من أساء وأخطأ، صحيح. لكن توصيف مؤسسة كاملة بأنها "مرتزقة" يُسقِط كل التعقيدات ويحوّل شعباً كاملًا إلى ضحية خطاب تبسيطي يريح الغاضبين لكنه لا يغيّر الواقع.

رابعاً: المطلوب إصلاح، لا جلد ذات ولا جلد قيادة.
القيادة بحاجة إلى:
انتخابات عاجلة تجدد الشرعيات.

فصل بين السلطة بوصفها إدارة يومية لشؤون الناس وبين منظمة التحرير بوصفها إطارًا قيادياً للتحرر.

إعادة بناء مؤسسات الرقابة والمساءلة.

فتح الباب لجيل سياسي جديد.

لكن الإصلاح لا يبدأ من شيطنة المؤسسة، بل من إعادة بنائها من الداخل. هذه السلطة و بكل أخطائها  هي آخر ما تبقى من بنية وطنية جامعة في زمن الانهيارات. إسقاطها بالمفردات لا يخلق قيادة جديدة، بل يخلق فراغاً يملؤه الاحتلال وحده.

خلاصة القول:
نحترم الخالدي ونقدّر مكانته ودوره الفكري، لكن لا أحد يمتلك امتياز إصدار أحكام نهائية على مشروع كامل. نعم، نحتاج نقدًا شجاعاً، لكننا نحتاج أيضاً لغة تُصلح ولا تهدم.
وإن كان لا بد من توصيف دقيق، فهو التالي:
لدينا قيادة أخطأت وتراجعت وابتعدت عن الناس، لكنها ليست مرتزقة. لدينا خلل بنيوي يحتاج إصلاحاً حقيقياً، لا صراخاً لفظياً. ولدينا سلطة يجب أن تتحول من إدارة يومية إلى قيادة تحررية، وهذا لن يتم إلا بإرادة سياسية جديدة وانتخابات تعيد الروح للنظام السياسي الفلسطيني.

بهذا التوازن فقط نحمي الحقيقة ، ونحمي المشروع الوطني من الإفراط في الغضب ومن الإفراط في التجميل.