التعليم الفلسطيني بين معايير اليونسكو ومعركة الوعي: كيف نصوغ منهاجًا لا يُهزم؟

2025-11-16 18:50:34

يشكّل مقال الأستاذ نسيم قبها حول مواءمة المناهج الفلسطينية لمعايير اليونسكو واحدة من أهم الإشارات الفكرية في نقاش التربية الفلسطينية اليوم؛ فقد وضع إطارًا نظريًا عميقًا يؤكد أن المنهاج ليس وثيقة تعليمية صامتة، بل ساحة صراع على الوعي والهوية، ومختبرًا لتشكيل الإنسان الفلسطيني الجديد. ورغم قوة الطرح الفلسفي الذي قدّمه، فإن هذا النقاش يحتاج إلى استكمال عملي يترجم تلك الرؤية إلى معادلة واضحة: كيف نستوحي من العالم دون أن نفقد أنفسنا؟ وكيف نواكب معايير العصر دون أن نذوب في سرديات الآخرين؟ هنا تتجلى أهمية إعادة صياغة المشروع التربوي الفلسطيني بطريقة تجعل المواءمة معايير اليونسكو عملًا واعيًا، لا استجابة آلية ولا انصياعًا لإملاءات سياسية أو تمويل مشروط.

الحديث عن مواءمة المعايير الدولية لا يمكن أن يبقى عامًا؛ فاليونسكو تتعامل مع أطر محددة مثل مهارات القرن الحادي والعشرين، والمواطنة العالمية، والتعليم من أجل التنمية المستدامة، وإطار الذكاء الاصطناعي في التعليم، ومعايير الجودة والإنصاف. وهذه الأطر ليست وصفات جاهزة، بل أدوات قابلة للتأويل. ففي السياق الفلسطيني، تصبح المواطنة العالمية قدرة على توصيل عدالة القضية للعالم لا تبريرًا للذوبان في هوامش الآخر. وتتحول التنمية المستدامة إلى مشروع لحماية الأرض والمزارع من مصادرة الاحتلال، لا مجرد حديث بيئي لطيف. أما التعلم الرقمي فلا ينفصل عن الحاجة إلى حماية الوعي الفلسطيني من الاستعمار الرقمي الذي يُنتج تضليلًا منهجيًا عبر الخوارزميات ومنصات التواصل.

لكن النقاش يفقد جزءًا من معناه إن لم يُربط بمثال تربوي حيّ. فالمنهاج الفلسطيني الحالي يحمل جوانب قوة مهمة، لكنه يحتاج إلى تحديث يعزز روح البحث الميداني في مواد الدراسات الاجتماعية بدل الاكتفاء بالسرد التقليدي. ويحتاج إلى ربط العلوم الحديثة بتجربة العلماء العرب والمسلمين وبالسياق الفلسطيني، حتى لا تبدو الفيزياء والكيمياء وكأنها منتجات عالم لا علاقة لنا به. كما يحتاج إلى وحدات تكنولوجية تعلّم الطالب كيف يفكك التضليل الإعلامي، وكيف يقاوم هيمنة البيانات بدلاً من أن يكون مستهلكًا سلبيًا لها.

الوعي التربوي لا يكتمل دون الحديث عن الإبستمولوجيا، وهي النقطة التي أثارها قبها بعمق، لكنها تحتاج إلى بعد تطبيقي. فالمطلوب ليس مجرد “معرفة نقدية”، بل “معرفة مقاومة” تُفهم فيها الحقائق من منظور فلسطيني أصيل، يربط العلم بالأرض، والتاريخ بالهوية، والمهارات بالحياة اليومية. الإبستمولوجيا المقاومة هي تلك التي تجعل الطالب يفكر ويسائل ويقارن ويربط، لا أن يحفظ ويكرر. وهي التي تساعده على فهم أن الذكاء الاصطناعي ليس حيادياً، وأن المناهج ليست بريئة، وأن ما يتعلمه من تقنيات ومفاهيم قد يكون جزءاً من معركة أكبر على الوعي والذاكرة.

ولكي تتحول هذه الرؤية إلى واقع، لا بد لوزارة التربية والتعليم من تبني خارطة طريق واضحة: بناء إطار وطني للكفايات يوازن بين المهارات العالمية والثوابت الوطنية، حماية المناهج من التمويل المشروط، تدريب المعلمين على مهارات التفكير النقدي والتحليل الخطابي، وتطوير محتوى رقمي فلسطيني مستقل يقلّل من التبعية للخوادم والمنصات التي تسيطر عليها شركات عالمية متحيزة. كما يجب مواجهة التحديات الداخلية بجرأة، بما فيها الفجوة بين التعليم في الضفة وغزة والقدس، وضعف البنية التحتية، والتدخل السياسي، وضغط التوجيهي، فهذه التحديات قد تطيح بأي إصلاح إن تُركت دون معالجة.

ما نحتاجه اليوم ليس مواءمة تقنية مع اليونسكو، بل مواءمة واعية تُنتج نموذجًا فلسطينيًا فريدًا، قادرًا على الجمع بين العالمية والخصوصية، بين العلم والمقاومة، وبين الحداثة والهوية. نموذج يقدّم للعالم تجربة تربوية من شعب تحت الاحتلال، لكنه يرفض أن يبقى أسيرًا له. نموذج يخرّج طالبًا لا يبحث فقط عن وظيفة، بل يحمل رؤيته وقضيته ومهاراته إلى العالم بثقة ووضوح.

بهذه الروح، تصبح المناهج الفلسطينية جزءًا من معركة الوعي لا ضحية لها، وسلاحًا في الصراع لا هامشًا فيه، ورسالة تؤكد أن التربية ليست مجرد درس في كتاب، بل فعل وجودي يصنع الإنسان الذي لا يُهزم.