كثيرون في إسرائيل يرون انهيار الكيان وشيكاً

2025-11-14 09:11:41

تبدو إسرائيل اليوم ككيان يقف على حافة أزمة وجودية مركّبة؛ فالعدوان على غزة التي كان يُراد له أن يبرهن على تفوّق إسرائيل وامتلاكها قوة غير قابلة للهزيمة، على عكس المرغوب كشفت عن هشاشة تركيبة المجتمع الإسرائيلي الداخلية، العدوان والمجازر انتجت سياسة دولية أقرب ما تكون إلى الحصار رغم الدعم الذي توفره الولايات المتحدة وحلفائها.

في المشهد الراهن، يتقاطع الانقسام الداخلي الحاد مع عزلة خارجية متصاعدة، ويغدو الخطر الحقيقي ليس في الجبهة المشتعلة في الجنوب، بل في تلك التي تنفتح في الداخل الإسرائيلي، حيث تتآكل الثقة بالمؤسسات وتتصدع الرواية الجامعة التي طالما استندت إليها الدولة العبرية

لقد تحولت الضغوط الدولية الناتجة العدد المهول للضحايا خاصة الأطفال والنساء جراء جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل امام اعين العالم اجمع إلى اختبار مباشر للمجتمع الإسرائيلي؛ فالإدانة العالمية، والملاحقات القانونية، والتقييدات الاقتصادية، أعادت إلى السطح أسئلة الهوية والشرعية، وجعلت الإسرائيليين يواجهون واقعًا لم يألفوه منذ عقود: تراجع صورة إسرائيل كقوة منسجمة قادرة على ضبط أزماتها الداخلية. في هذا السياق، باتت الأصوات المحذّرة من "الانهيار من الداخل" تبدو أقرب إلى الواقع منها إلى الخيال.

قبل أشهر من اندلاع العدوان، نشر موقع N12 الإسرائيلي (في 29 أبريل 2023) تحليلًا لافتًا بعنوان "يمكن أن تنهار إسرائيل من الداخل". التحليل لم يتحدث عن تهديد عسكري، بل عن خطرٍ نابع من الداخل نفسه: أزمة ثقة متصاعدة، انقسام اجتماعي، وتراجع في مناعة المجتمع، رأى كاتبو التحليل أن تزامن يوم الذكرى ويوم الاستقلال، بما يحمله من انتقالٍ قسري بين الحزن والفرح، بات يختصر المفارقة الإسرائيلية كلها؛ مجتمع يعيش على التناقضات، يحزن على جنوده القتلى ثم يحتفل باستقلالٍ مغمّس بالدم. ومع أن تلك المخاوف كُتبت قبل الحرب، إلا أنها اليوم تبدو كأنها قراءة استباقية لما يحدث. فقد جاءت المعركة الأخيرة لتكشف عمق الانقسام الداخلي بين النخب السياسية والعسكرية، وبين الحكومة والجمهور، وبين مراكز القرار في تل أبيب وما تبقى من الثقة داخل الشارع.

أبرز مظاهر هذا الانقسام ما يُعرف بـ الانقلاب القضائي، الذي مزّق المجتمع الإسرائيلي إلى معسكرين متواجهين، فالجدل حول صلاحيات المحكمة العليا لم يعد مسألة قانونية، بل تحوّل إلى رمز لصراع أعمق حول هوية الدولة، هل هي ديمقراطية ليبرالية حديثة، أم دولة قومية يهودية محكومة بمنطق الأغلبية السياسية؟ هذا الانقسام لم يتوقف عند حدود السياسة، بل امتد إلى الجيش والمؤسسات الأمنية، التي كانت تُعتبر "قدس الأقداس" في الوعي الإسرائيلي الجمعي.

ثم جاءت فضيحة تسريب فيديو عن معاملة الأسرى الفلسطينيين لتضيف بعدًا أخلاقيًا جديدًا للأزمة، لقد اهتزت صورة الجيش، ليس أمام العالم فقط، بل داخل المجتمع نفسه، تراجعت الثقة بالمؤسسة التي كانت تُقدَّس، وارتفعت نبرة النقد الأخلاقي داخل إسرائيل، خصوصًا مع اتساع شعور قطاعات من المجتمع بأن الحرب لم تعد دفاعًا عن الوجود بقدر ما أصبحت دفاعًا عن الحكومة.

هذه التصدعات الداخلية تتزامن مع حصارٍ سياسي ودبلوماسي آخذ في الاتساع. فالمجتمع الدولي الذي طالما وفّر الغطاء لإسرائيل، بات اليوم أكثر حذرًا في دفاعه عنها، قرارات المقاطعة، والمطالبات بالتحقيق في جرائم الحرب، والقيود المتزايدة على تصدير الأسلحة، جميعها مؤشرات على أن إسرائيل تواجه أزمة غير مسبوقة في صورتها الدولية، ما يفاقم الضغط الداخلي ويكشف حدود قوتها.

إن تفاعل هذه الأزمات يضع إسرائيل أمام معادلة خطيرة، كل ضعف داخلي يزيد من عزلتها الخارجية، وكل حصار خارجي يعمّق انقسامها الداخلي. ومن هنا يتضح جوهر الأزمة؛ فالمجتمع الذي طالما تباهى بتماسكه في مواجهة "الخطر الخارجي"، يجد نفسه اليوم مفككًا في مواجهة ذاته.

إن الحلول المطروحة داخل إسرائيل تبدو حتى الآن أقرب إلى التسكين منها إلى العلاج. الحديث عن حوارات في "بيت الرئيس" أو مبادرات لإعادة الثقة بالمؤسسات لا يتجاوز محاولات لإيقاف النزيف، لكنه لا يعالج الجرح العميق الذي يمس هوية الكيان ورؤيته لنفسه، فالمشكلة لم تعد في السياسات اليومية، بل في الأسس التي قامت عليها إسرائيل كدولة تجمع بين الدين والقومية والديمقراطية، وهي معادلة لم تعد قادرة على الصمود تحت ضغط الواقع الراهن.

إن تحليل N12، حين أشار إلى احتمال انهيار إسرائيل من الداخل، لم يكن نبوءة بقدر ما كان توصيفًا لمسارٍ بدأ يتضح منذ سنوات. أما العدوان على الشعب الفلسطيني خاصة في غزة، فقد جاء ليختصر هذا المسار ويدفعه إلى أقصاه، ليكشف أن إسرائيل لا تواجه فقط مقاومة خارجية، بل أيضًا مقاومة داخلية خفية ضد بنيتها المتصدعة.

قد يكون التهديد الحقيقي اليوم ليس في الصواريخ التي قد تُطلق مجددا من غزة، او من اليمن بل في الشرخ الذي يتسع بين مكوّنات المجتمع الإسرائيلي، فحين يفقد المجتمع ثقته بمؤسساته، وتغيب وحدة الهدف، وتتحول الدولة إلى تجمعات متنازعة تحكمها مصالح متضاربة، يصبح الانهيار كما قال التحليل الإسرائيلي نفسه احتمالًا واقعيًا لا مجرد تخوف عابر.

لقد كانت "المناعة الداخلية" كما يسمّيها المفكرون الإسرائيليون هي السلاح الأهم الذي مكّن إسرائيل من تجاوز أزماتها السابقة، فكل حرب أو مواجهة كانت تُعيد اللحمة بين المكوّنات المتباينة وتُجدد الإحساس بالمصير المشترك، أما اليوم، فالحرب نفسها لم تعد عامل توحيد، بل باتت كاشفًا لمدى التآكل في تلك المناعة. ومع انكشاف إسرائيل أمام العالم كقوة غارقة في عنفها، وأمام نفسها كمجتمع مأزوم، يبدو أن الخطر الحقيقي لم يعد يأتي من الخارج، بل من فقدان تلك القدرة التاريخية على الصمود النفسي والسياسي. إنها لحظة نزع المناعة؛ لحظة يتعرى فيها الكيان أمام ذاته، فيتراجع الإيمان بالقدرة على البقاء، ويحل مكانه شعور ثقيل بالإنهاك، كأن إسرائيل تكتشف لأول مرة هشاشتها البنيوية بعد عقودٍ من ادعاء القوة.

ما يخيف الإسرائيليين ان الوضع الراهن يتقاطع مع ما تم توصيفه في التلمود، فالمجتمع الإسرائيلي خاصة المتدينين يؤمنون بالنبوءات، لديهم عقدة العقد الثامن، إضافة الى تبني جزء من المتدينين عقيدة تجرم إقامة دولة لليهود، مضاف الى كل ما سبق ان ما يسمى ارض الميعاد لم تعد ارض السمن والعسل ولا تلك الجغرافيا الامنة، من كل ما سبق يتبادر السؤال هل إعادة صياغة العالم ستنهي الهيمنة الإسرائيلية؟ سواء عبر انهيار الكيان او كحد أدني تقليص مهماته.