عرس في القاهرة
في القاهرة، تلك المدينة التي تحفظ الذاكرة العربية والقومية في ازقتها واصواتها، التقيت بالأسرى الفلسطينيين المحررين في الصفقة الاخيرة والذين ابعدهم الاحتلال عن وطنهم.
رأيتهم يسلكون طريق الحرية بين ركام اجسادهم، وقد خرجوا من تحت نظام تعذيب ممنهج تقوده دولة حاقدة ومؤسسة رسمية، في صوتهم شهقات الموتى في لحظاتهم الاخيرة، وفي وجوههم علامات القيامة عندما قام جحيمها في كل زنزانة.
كنت هناك مع من نجوا من الغياب والنسيان ومن القصف والموت، ومع من ماتو الف مرة، ثم عاشوا حاملين اكفانهم سوداء أو بيضاء، عراة وحفاة، محطمون ومهانون ومجوعون، معاقون ومصابون بدهشة الحياة.
كنت هناك مع من أفرج عنهم في موسم قطاف الزيتون هذا العام، وقد رأيت الزيت يشتعل في اجسامهم، وفي حقولهم، في وعيهم، في نظراتهم، وهم يتلفتون في كل اتجاه، زيت يحترق في كل مدينة وبلدة وقرية في فلسطين، حرب على غزة وحرب على الزيتون وطور سنين، حرب على الاسرى من اللحم والعظم حتى قاع الجذور، حرب على من علق آماله على زيتونة كنعانية خضراء لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيئ ولو لم تمسسه نار.
التقيت الاسرى المحررين في القاهرة، رايت البحر المتوسط يتحفز لاستقبال الشتاء وغسل شاطئ غزة بالرمل والملح والماء، رايت الإبادة الدموية على جسد كل اسير، انهالت الحكايات والتفاصيل والعتمة، انهالت الصواريخ والقنابل فوق رؤوس الناس، التدمير الانساني، اقتلاع الارواح، طحن البشر وتذويبهم وصهرهم في تلك المعسكرات الحجرية خارج حدود العقل والأرض والسماء.
لا زالوا يتحسسون أياديهم المكبلة والمحفورة، لازالوا ينزعون الأسلاك من جلودهم ويتعثرون في الظلمة، رؤوسهم المفشوخة، أضلاع صدورهم المكسورة، وجوههم المهشمة، جروحهم المفتوحة المتعفنة، امراضهم العديدة، أسنانهم المخلوعة، أرجلهم المبتورة، عكازاتهم، حلوقهم الجافة، هياكلهم الضامرة، ينظرون إلي الفضاء، يسألون نهر النيل: هل يتسع هذا المدى لوجع الذاكرة؟
في القاهرة شاهدت رجالا خرجوا من الكهوف القديمة كما وصف ذلك الأسير ناصر ابو سرور، خرجوا من شقوق الجدار الهرم ومن الانسحاق الذاتي، ومن صلاة الغائبين في الجنازات الكثيرة، ومن اعمار المؤبد الذي لا يكبر ولا يشيخ، من الاسمنت والبرودة وبلادة الايام وهشاشة العظام والأبواب الصدئة، خرجوا من الزمن الهارب من الوقت والصمت المخيف.
حين وصلوا القاهرة لم يجدوا عائلاتهم وحبيباتهم وطفولتهم الضائعة، لم يتحرروا تماما، بل حملوا معهم أرقاما وظلالا من الحديد، بقيت أرواحهم تتلمس الجدران وتسمع صفير الانذار، وجدوا أنه في المنفى القسري تتبدل القيود وتتحول الى حنين جارح، اين الأمهات والذكريات وخبز الطابون ونشيد المدرسة؟ المنفى سجن بلا سجان، يقول الأسير كميل ابو حنيش وهو يكتب روايته الجديدة على فراغ واسع من الاسئلة.
كنت معهم هناك على ضفاف النيل، وشعرت أنهم يريدون أن يلقوا بصخرة ثقيلة في النهر، أن يلفظوا السجن ويرمونه كما كان القدماء المصريين يلقون الأضحية في مياه النيل، ليغسلوا أرواحهم من الرطوبة وطحالب الدود والعذاب والجفاف، وشعرت أنهم لا ينامون، مسيقظون دوما، متاهبون، اشباح وحوش تنقض عليهم كل حين، هراوات وغاز ودماء وعصي وحبال وقيود وكلاب، صراخ وشتائم وإذلال وضرب وشبح وجوع واغتصاب، خوف دائم من الليل والعواء.
كنت معهم، ما اجملهم وما اروعهم القادمون من الاعماق كالاساطير والنبوءة، المحمولون على قصائدهم واشواقهم واغانيهم وابجدياتهم خارج اللغة السجينة، الذين نسيهم القانون الدولي دهورا طويلة، نسيهم السلام المأمول وهرستهم الحرب تحت جنازيرها الثقيلة، الذين تركتهم العدالة الدولية يذبحون على يد دولة منفلتة ارهابية، ما اروعهم، تركوا أجسادهم خلفهم لتحلق أرواحهم وزفيرهم الان في سماء القاهرة.
يقولون: الحرية اولا، والباقي دروب نسيرها في فوضى حواسنا الرمادية، ولكن بلا قميص بني، ولا مشنقة تنتظرنا وثلاجة موت باردة، لا خطوط صفراء في ساحة السجن وفي الضفة المحتلة وفي غزة، تحد من سيرنا إلى الأمام في حياتنا القادمة.
الحرية اولا، الحرية الشاملة أرضا وسماء وهوية ومصيرا وذاكرة، لا حواجز ولا تعليق ولاسحل ولا تعرية ولا مداهمة، لا جوع يفترسنا حتى كدنا أن نفترس أنفسنا، وناكل لحومنا في مختبرات الابادةومسارح التسلية بالجثث، الحرية اولا، وحدة وفكرا وثقافة وصمودا ومقاومة.
كنت معهم، قالوا لي: لا تخف، قادرون على إعمار حياتنا وترميم جسومنا المهدمة، قادرون على الحياة بعد دفننا، وان نأخذ حصتنا من الهواء والشمس والتعب، قادرون أن نشهد، وأن ندل الشهداء على دمهم، وان نموت مرة أخرى في سبيل الحرية والكرامة والإنسانية.
كنت معهم في القاهرة، وفي زفاف الأسير المحرر احمد ماضي في مدينة نصر وفي قاعة اللؤلؤة، اجتمعنا، ودبكنا وغنينا ورقصنا، ارتدينا الكوفيات، أقمنا عرسا بموسيقى فلسطينية وزهور مصرية،حضر معنا كل ملوك الفراعنة وعروساتهم واهراماتهم ومعجزاتهم، حضر ابو الهول، هذا العجوز الحجري صافحنا واحدا واحدا وقال: انتم يا اهل فلسطين من جعلتموني انطق بعد آلاف الاعوام، انتم من اوصلتم الرسالة من الطين والفحم الى النجم والكون.
عرس في القاهرة، وقد بدت المدينة كاميرة تستقبل العائدين من العدم، توزع أنوارها وجمالها على التاريخ الذي لم تستطع الجرافة أن تطمره ولا لاهوت الموت، كان معنا الأسير المقدسي الكفيف علاء البازيان، فسبحانك يارب: فتح علاء عينيه فرأينا القدس تبخرنا بعود العنبر وتلاوة الفجر، سبحانك يارب: فاض النيل وابتسمت غزة.