ترمب... بين لحيتين
حين وضعت أمريكا ملايين الدولارات كجائزة لمن يظفر "بالجولاني" حيّا أو ميتاً، لم يكن يخطر ببال إداراتها أن للأقدار ألعاباً أقوى من قدرات الدول العظمى، فإذا بالمطلوب حيّاً أو ميتاً يدخل البيت الأبيض، ماشياً على قدميه، وبمراسم احتفالية، والرئيس دونالد ترمب يلتقيه للمرة الثالثة في غضون سنة، بعد أن رفع اسمه من قائمة الإرهابيين الدوليين، فذهب الإرهاب مع "الجولاني" وحضر الحليف الجديد الشرع إلى البيت الأبيض.
الجولاني سابقاً والشرع حالياً، حين ينظر من شرفة قصر الأسدين الواقع على قمة قاسيون، يرى جيش إسرائيل يرابط على قمة جبل الشيخ، ويرى منطقةً تسمّى بالعازلة، تمتد لتصل بوابة دمشق الجنوبية، ولأول مرةٍ في التاريخ يكون قلب العروبة النابض كما كانت تسميها بلاغات الانقلابات، وهي بلا جيش ولا سلاح، ولا حتى أبسط القدرات الدفاعية، ويرى السويداء متمردةً معزولة، ويرى شمال سوريا بعيداً عن قبضة الدولة.
الشرع كغيره من زعماء الشرق الأوسط يدرك أهمية أمريكا، بذات القدر من إدراكه لقدرات إسرائيل التي هيأت سقوط الثمرة ناضجةً في حضن ترمب، بعد أن هزّها الشرع إثر انتحار نظام الأسدين، فإذا بالطريق سالكةً آمنة من إدلب حتى القصر الجمهوري في دمشق.
ماذا بوسع أمريكا أن تفعل للشرع كحاكمٍ قدريٍ لسوريا؟
بوسعها أن تفعل له أكثر بكثيرٍ مما فعله الروس لسلفه بشار، ولكن ذلك لا يعني أبداً أنه وسوريا بلغا منطقة أمانٍ يبني منها سوريا الجديدة.
لقد وصل الشرع إلى القصر الجمهوري، في أسهل عملية استيلاءٍ على السلطة في بلد الانقلابات والحروب والثورات، وها هو يوشك على إكمال سنة كرئيسٍ انتقاليٍ لسوريا، ومنذ أيّامه الأولى في قصر الأسدين وإلى أيامنا هذه، حصل على ما يتمناه أي رئيسٍ من دعمٍ بلغ حدّ الاجماع الوطني والإقليمي والدولي، وهذا الذي حصل عليه، يبدو عديم الفائدة أو أنه مبتدأ معادلة البقاء دون خبرها، والسؤال.. كيف تولد سوريا الجديدة من داخلها؟ كيف يتبلور فيها نظامٌ سياسيٌ ينجح في جعلها دولة كل مواطنيها، وليست مجرد مكانٍ لا يرى فيه كل من يحملون جنسيته، وطناً لهم؟
هذه هي وظيفة الشرع ومن معه، بل إنها تحديهم الأول والأخير، وفي مسألة النظم والكيانات، فإن البقاء والتطور والاستمرار يُصنع من داخل الوطن وليس من أي مكانٍ آخر.
الشرع ضيفٌ محبب إن لم نقل مدللاً في بلاط ترمب، ويتعين عليه أن يدرك حقيقةً ترقى إلى مستوى المبدأ تقول.. إن لم يكن بناء البيت السوري بمشاركةٍ عادلةٍ بين كل مكونات الشعب والوطن، فلن ينفع لا ترمب ولا غيره.
وهنا لنتحدث قليلاً عن اللحية الثانية التي نبتت غزيرةً تحت نافذة البيت الأبيض في نيويورك، والتي يحملها شابٌ في مقتبل عمره اسمه زهران ممداني، شابٌ فخورٌ بدينه، وزوجته السورية، ولغته العربية، واعتناقه العدالة التي ينبغي أن لا تظل غائبةً في زمن ترمب وغزة والحرمان السياسي الفلسطيني.
لقد اعتمد ممداني على مدينة نيويورك وساكنيها دون انتظار دعمٍ من خارج حدودها، رغم أن خصومه لم يكونوا أقليةً هامشيةً في أمريكا، بل كانوا سلطةً في نيويورك وعلى مستوى الولايات المتحدة كلها، وكان ترمب القائد المعلن والمستميت لوأد ظاهرة ممداني، فإذا به يبدو هامشياً حين قررت نيويورك انتخاب من يقودها.
الشرع يدخل اختباره الأهم وعلامة النجاح لن تأتي لا من أمريكا ولا من أي مكانٍ آخر خارج سوريا، النجاح تنتجه سوريا الجديدة من داخلها، ويتعين عليه وهو ضيف البيت الأبيض، أن يتمثل تجربة ممداني الغنية حيث النجاح في البيت ومن البيت أولاً وأخيراً.