لعبة الأسماء في الزعامة الفلسطينية
استقرت الزعامة الفلسطينية في عهد ياسر عرفات زهاء خمس وثلاثين سنة، فمنذ نودي به رئيساً لمنظمة التحرير في العام 1969 إلى أن توفاه الله في العام 2004، لم ينازعه أحدٌ على موقعه، وهو المستحوذ على عدة رئاسات من رئيس فتح إلى رئيس المنظمة إلى رئيس الدولة إلى رئيس السلطة الوطنية، وكثيرٍ غيرها من رئاسة إطاراتٍ ومؤسساتٍ فرعية.
زعامة عرفات ورئاساته طويلة الأمد، لم تكن لتخلو من معارضاتٍ وانشقاقاتٍ وتمردات، إلا أنها جميعاً لم تصل حد التأثير على استقرار مكانته وتكرسها.
غير أن ما كان يُتداول في حياته سؤال.. من هو الرجل الثاني؟
وفي هذه الحالة كان يجري استعراض أسماء عديدة، أهمها صلاح خلف أبو إياد صاحب الكاريزما القوية، وأبو جهاد الذي كان يحتل الموقع الرسمي الثاني، حيث كان مسماه الدائم نائب القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية، وخالد الحسن ولكن على نحوٍ موسمي، يسطع يوماً ويخبو أيّاماً.
وكل هذه الأسماء لم يجازف واحدٌ منها بطرح نفسه منافساً لعرفات ولا حتى خليفةً له.
إلا أن للأقدار تصاريفها غير المسيطر عليها... مثلاً إن جميع من كانت تتداول أسماؤهم كخلفاء خرجوا من المشهد بالموت طبيعياً أو اغتيالاً، ليبقى من التاريخيين اثنان هما محمود عباس وفاروق القدومي.
القدومي أخرج نفسه من سباق الخلافة، بل إنه لم يكن مناسباً لها فقد اعترض علناً وبشدة على اتفاقات أوسلو، بينما العالم كله يريد تجربة من وصف عن حق بمهندس أوسلو.
حين عاد عرفات إلى أرض الوطن، تولت الصحافة الإسرائيلية ترشيح أسماء كثيرةٍ لخلافته، رغم أنه كان قليل المرض وبصحة يحسده عليها الشباب.
كانت لعبة الأسماء مثيرةً وجاذبةً للرأي العام، وحتى على مستوى دوائر صنع القرار في العواصم ذات الصلة بالحالة الفلسطينية، غير أن الظاهرة العرفاتية المستقرة، شكّلت سداً منيعاً لا يقوى أي اسمٍ تجاوزها حتى لو دُعم من قبل العالم كله.
الأسماء التي كانت تصدّر للرأي العام الفلسطيني لم يكن أي منها يمتلك مقومات زعامةٍ تملأ فراغ غياب عرفات، كان لابد من أن يكون الخليفة من التاريخيين، وهنا تركّز الاهتمام على محمود عباس كونه الأكثر تأهيلاً لتنفيذ ما كان مهندساً له وهي اتفاقات وتفاهمات أوسلو التي اعتبر عرفات ثقيلاً عليها. وبحكم مكانته وتاريخه فهو بحجمٍ لا يسمح له بالمرور من الثقوب الضيقة لمصفاتها.
في العام 2004 توفي ياسر عرفات، كان المرشح التلقائي لخلافته محمود عباس، وقد جرت عملية الخلافة في قنواتها التي يمكن وصفها بالدستورية، فسميّ المرشح التلقائي رئيساً لمنظمة التحرير بإجماع أعضاء لجنتها التنفيذية، ثم رُشّح من قبل فتح لخوض معركة رئاسة السلطة بعد انقضاء المهلة الدستورية، وكان فوزه فيها مضموناً بحكم مكانة حركته في الحياة الفلسطينية، ذلك دون توقع أن تستمر رئاسته عشرين سنة، لم تجري خلالها إلا انتخابات واحدة هي التي جاءت به رئيساً ومن يومها ختم صندوق الاقتراع بالشمع الأحمر.
في العام 2025 يبلغ محمود عباس التسعين من عمره، وقد يجادل البعض بأنه أقل من ذلك أشهراً أو أسابيع، وعلى نحوٍ مبكر ومنذ أيامه الأولى في الرئاسات التي كان يحتلها ياسر عرفات، بدأت بورصة الأسماء في العمل، وغالباً ما كانت الصحافة من يطرحها، وظهرت أسماءٌ كثيرة كان يجري تداول بعضها أيّاماً أو أسابيع، ليغيب عن السوق من يتداول اسمه لتظهر أسماءٌ أخرى وهكذا.
وسائل الاعلام المتعطشة للإثارة واستقطاب المشاهدين والمستمعين والقرّاء، كانت وما تزال تؤلف سيناريوهاتٍ تبدو يقينيةً ودائمة، ولكن على حالاتٍ عابرةٍ أو مؤقتة، حتى بدت ترشيحات الخلافة كما لو أنها ترشيحات لجمعية خيرية وليس لرئاسة حالة هي الأكثر تعقيداً وصعوبةً في العالم كله.
لعبة الأسماء تجاهلت الإمكانيات والقدرات والآليات، فهذا ترشحه إسرائيل وذاك ترشحه أمريكا وأوروبا، وذاك ترشحه دولٌ عربية، ولكن إذا ما تم التدقيق في القدرات الفعلية لأداء عمل الرئيس المنقذ فأين تجد مواصفات رئيسٍ يتعين عليه حل جميع المشكلات التي تعاني منها الحالة الفلسطينية وأهمها استمرار الاحتلال والاستيطان مع أزمات النظام السياسي وأزمات الاقتصاد وإنهاء مجاعة غزة وإعادة إعمارها وربط الحل المتعلق بها بحاضر ومستقبل القضية الام، وأمورٍ عديدة غايةٍ في الصعوبة والتعقيد، تجعل الفلسطينيين بحاجة لمن يخلص وليس لمن يتزعّم.
في الواقع لا يملك آدميٌ عصاً سحرية يمررها على القضايا المستعصية فإذا بها تحل، ولكن ما يمكن السعي إليه منطقياً هو تجديد نظامٍ سياسي أساسه صندوق الاقتراع، فمنه وحده يخرج المؤهل للقيادة ليس كفردٍ وإنما كرأسٍ لنظام سياسي قائمٍ على المؤسسات المنتخبة، ما يحول دون جمع السلطات في يدٍ واحدة.
الرئيس الذي يحظى باحترام الشعب الفلسطيني والعالم ولكي يكون شرعياً وبلا نقاش فليس أمامه سوى الدخول في المسار الانتخابي.