خاص| ما مدى صوابية مشروع قانون يقنن التعامل بالكاش في فلسطين؟
خاص - راية
ناقش برنامج "نبض الاقتصاد" الذي تبثه إذاعة "راية" مشروع قانون جديد يهدف إلى تقنين التعامل النقدي (الكاش) في السوق الفلسطينية، وذلك في ضوء التحركات الجارية من قبل سلطة النقد ووزارة المالية وديوان الرئاسة لدراسة وإقرار التشريعات المنظمة لهذا التحول المالي.
وفي هذا السياق، استضاف البرنامج الخبير والمستشار المالي والمصرفي محمد سلامة الذي قدّم قراءة شاملة في أبعاد هذا المشروع، والسياقات الاقتصادية والمالية التي دفعت باتجاه طرحه.
خمس سياقات رئيسية لطرح القانون
أوضح سلامة أن مشروع القانون يأتي في إطار خمسة سياقات متداخلة، أبرزها:
• تطبيق قانون مكافحة غسل الأموال رقم (39) الذي يتطلب تحديد سقف للصفقات التجارية النقدية بين التجار.
• الإصلاح الضريبي، بهدف تتبّع حركة الأموال وتوسيع نطاق الرقابة على الأنشطة الاقتصادية التي تجري خارج النظام الضريبي الرسمي.
• تنظيم تداول الشيكل الإسرائيلي في السوق الفلسطينية في ظل أزمة العرض النقدي وازدياد الكتلة النقدية المتداولة.
• الإصلاح المالي والإداري المطلوب من السلطة الوطنية الفلسطينية ليتماشى مع الأنظمة المالية العالمية.
• التحول العالمي نحو الاقتصاد غير النقدي لما يوفره من كلفة الطباعة والنقل والتأمين وتداول الأموال الورقية.
وأشار سلامة إلى أن فلسطين تأخرت في تطبيق هذا النوع من التشريعات، معتبرًا أن السقف المقترح للصفقات النقدية وهو 20 ألف شيكل ربما "مرتفع نسبيًا" ويحتاج إلى خفض تدريجي ليواكب واقع الدخل ومستوى المعيشة في المجتمع الفلسطيني.
الكتلة النقدية الهائلة وتأثيرها على الاقتصاد
بيّن سلامة أن حجم النقد المتداول في المناطق الفلسطينية يتجاوز 30 مليار شيكل، ما يعادل نحو 50% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم كبير جدًا بالمقارنة مع الاقتصاد الإسرائيلي الذي تبلغ نسبة الكتلة النقدية فيه 7% فقط من الناتج المحلي.
وأضاف أن هذه الوفرة النقدية خارج النظام المصرفي تسببت في تضخم الأسعار وضعف النمو، إذ إن الأموال "المكدسة في المنازل والشركات لا تُستثمر ولا تُدرّ فوائد"، مما يعيق الدورة الاقتصادية والتنمية والاستثمار.
موقف البنوك وسلوك العملاء
وتطرق سلامة إلى أن تشدد بعض البنوك في قبول الإيداعات النقدية يدفع الأفراد والتجار إلى الاحتفاظ بالكاش، الأمر الذي يزيد من السيولة المفرطة خارج الجهاز المصرفي.
ودعا إلى إلزام البنوك بقبول الإيداعات المتوافقة مع طبيعة عمل العملاء، مع تطبيق مبدأ “اعرف عميلك” (KYC) لتتبع مصادر الأموال، ضمن سياسات مكافحة غسل الأموال.
وأوضح أن امتلاك النقد بحد ذاته ليس جريمة، لكن السؤال الأهم هو “من أين جاء هذا النقد؟”، لافتًا إلى أن القانون يستهدف بالدرجة الأولى تنظيم التعاملات غير القانونية مثل التجارة في المستوطنات أو التهرب الضريبي أو الصفقات غير الموثقة.
بين التجربة الإسرائيلية والخصوصية الفلسطينية
وعن مقارنة القانون المقترح بالنموذج الإسرائيلي الذي خفّض سقف التداول النقدي تدريجيًا من 11 ألف إلى 6 آلاف شيكل، قال سلامة إن "إسرائيل ليست نموذجًا يُحتذى"، لأنها بدأت بتطبيق هذه السياسات متأخرة وتحت ضغوط أمريكية بعد ملاحقات مصرفية تتعلق بغسل الأموال.
وأكد أن الوضع الفلسطيني يختلف جذريًا، نظرًا لطبيعة الاقتصاد الصغير وتعدد العملات المتداولة فيه (شيكل، دينار، دولار)، ولأن نسبة التعامل النقدي ما زالت مرتفعة جدًا في الأنشطة التجارية اليومية.
الحاجة إلى توازن وتشريعات متدرجة
واقترح سلامة أن يبدأ تطبيق القانون بسقف نقدي لا يتجاوز 10 آلاف شيكل على أن يتم خفضه تدريجيًا، مؤكدًا أن الهدف ليس التضييق على المواطنين بل تنظيم المعاملات التجارية وإدخالها ضمن الرقابة القانونية والضريبية.
وشدد على ضرورة إشراك وزارة المالية إلى جانب سلطة النقد في صياغة اللوائح التنفيذية للقانون، لأن الجانبين يشكلان جزءًا من النظام المالي الوطني الذي يضم أيضًا الصرافين وشركات الإقراض الصغير وشركات الفوركس.
الرابحون والخاسرون
وفي ختام حديثه، قال محمد سلامة إن تطبيق القانون سيؤدي إلى انخفاض معدلات التضخم ويعزز الاستقرار المالي، مما يعود بالنفع على المواطن العادي.
أما التجار الذين يعتمدون كليًا على الكاش فسيواجهون ضغوطًا تنظيمية قد تدفعهم إلى توثيق معاملاتهم وإدخالها في النظام المصرفي والضريبي، وهو ما يعتبره سلامة "إصلاحًا ضروريًا وإن تأخر كثيرًا".
مشروع تقنين التعامل بالنقد في فلسطين يمثل خطوة إصلاحية ملحّة تهدف إلى ضبط السوق، ومحاربة التهرب الضريبي وغسل الأموال، وتعزيز الشفافية الاقتصادية. لكن نجاحه، كما يؤكد سلامة، يتطلب تدرجًا في التطبيق وتكاملًا في الأدوار بين سلطة النقد ووزارة المالية، لضمان تحقيق التوازن بين متطلبات الدولة وحقوق المواطنين والتجار.