في اليوم التالي ماذا يمكن ان نقدم لغزة حتى نستعيد انسانيتنا

2025-10-07 20:18:24

بعد مرور731 يوم منذ السابع من اكتوبر وغزة تنزف، اليوم وبعد كل هذا الوقت لم تعد غزة مجرد مدينة منكوبة بل تحولت الى رمز غير مسبوق للصمود وتحمل ما لا طاقة للبشر به، تقتيل، تهجير، تجويع وامتهان لكرامة الكبير والصغير حيث برهن الجيش الاسرائيلي انه الجيش الاكثر همجية وتوحش في العالم، ولا يملك اي من قيم الانسانية ولا اخلاق الجيوش النظامية.

غزة ليست خريطة من حجارة وركام، بل جسد جماعي يبكي بصمت ويصرخ طلبًا لكرامته، الحديث عن إعادة الإعمار هنا لا يعني مجرد إسمنت وحديد، بل يعني إعادة ميلاد إنساني يليق ببشر عاشوا مأساة لا يمكن وصفها بسهولة، الأرقام أمامنا ليست مجرد أرقام باردة، بل نبضات حياة متقطعة، أحدث الاحصائيات تشير إلى أكثر من 66,361 شهيدًا حسب وزارة الصحة وأكثر من 200000 حسب تصريحات جنرالات اسرائيليين، وعدد إصابات يتجاوز 250,000 مصاب، بينهم عشرات الآلاف من الأطفال والنساء، بينما الملايين صاروا بلا مأوى و نزحوا مرات ومرات. هذه الكلفة البشرية تُلزمنا أن نضع الجانب النفسي والاجتماعي في صلب أي خطة إعادة إعمار لا تكتفي بالواجهات.

على الأرض تبدو الصورة أقسى، حيث جزء كبير من المباني والبنى السكنية تضرر أو دُمّر بشكل شبه كامل، وتجاوزت نسبة الدمار 89% من إجمالي المباني، إذ أصبح أكثر من 151,000 مبنى غير صالح للسكن، مع تفاوت الدمار بين المناطق، فمدينة غزة تضررت بشكل كبير، شمال غزة وصلت فيه نسبة الدمار إلى نحو 84%، وفي رفح تجاوزت 89%. المدارس تضررت أكثر من 300 مدرسة وبعضها دُمّر بالكامل، بينما الجامعات الست الكبرى تعرضت للتدمير الكلي أو الجزئي، ما يجعل نسبة تدمير المنشآت التعليمية في القطاع تقارب 89%، وهو ما حرم أكثر من 700,000 طالب من التعليم وأدى إلى استشهاد حوالي 16,879 طالبًا وإصابة أكثر من 24,918 آخرين. هذه الأرقام الهائلة تجعل أي برنامج إسكان أو تعليم جزئي غير كافٍ، ما يعني ضرورة إطلاق خطة شاملة لإعادة بناء المساكن والمدارس والجامعات وتوفير مأوى آمن ومستدام للعائلات المشردة، لأن إعادة بيت على حساب كرامة ساكنه ليست فكرة مقبولة.
المستشفيات والمرافق الصحية على شفير الانهيار، الغالبية العظمى منها تضررت بدرجات متفاوتة، وعدد كبير منها خرج عن الخدمة أو يعمل بطاقة محدودة مقارنة بالحاجة الهائلة للجرحى والمرضى، مع بقاء 14 مستشفى تعمل بشكل جزئيً من أصل 36. هذا النقص الحاد في الخدمات الصحية يزيد من معاناة الجرحى والمصابين ويستدعي تدخلًا عاجلًا لإعادة بناء المنظومة الصحية بشكل كامل، بما في ذلك تجهيز المستشفيات بالمعدات الطبية والأكسجين والأدوية وتأهيل الكوادر المحلية.

اما الغذاء، هناك أزمة إنسانية حادة تشمل الغذاء والمياه والوقود؛ مئات آلاف العائلات تواجه نقصًا حادًا في الغذاء، ملايين الأشخاص يحتاجون مياه شرب آمنة، والقطاع يعاني من انقطاع شبه كامل للوقود اللازم لتشغيل المستشفيات والمولدات، وهو ما يجعل توفير الاحتياجات الأساسية مسألة حياة أو موت، ويستدعي دعمًا عاجلًا من المجتمع الدولي لوقف الكارثة إلانسانية المتصاعدة.
بخصوص اعادة بناء الانسان فان الجانب النفسي والاجتماعي لا يقل أهمية عن الجانب المادي، أطفال رسموا ذاكرتهم بصور الانفجارات، وأمهات لا تغيب عنهن ظلال فقد لا ينتهي، وشباب يرى مستقبله يتلاشى أمامه. برامج إعادة التأهيل النفسي لا يمكن أن تكون حملة قصيرة الأجل، بل سلسلة مشاريع مستمرة تربط بين التعليم وإعادة التوازن النفسي، عبر مدارس آمنة بأنشطة علاجية ومراكز مجتمعية للتعامل مع الصدمات الجماعية، وتدريب آلاف من العاملين الاجتماعيين والمعالجين المحليين ليقودوا الانتعاش من الداخل. أي مشروع إعمار يهمش هذا البعد سيولد أجيالًا بلا أمل حتى وان استعاضوا عن البيوت بقصور.

التراث، الثقافة والمقدسات جزء لا يتجزأ من النفس الجماعية، وما أصاب المساجد والمقامات والمواقع التاريخية والمكتبات ليس مجرد تضرر حجري بل فقد لذاكرة تعيد تعريف الناس لأنفسهم. أكثر من 200 معلم أثري من أصل 325 موقعًا تضررت، وهو ما يشكل جريمة بحق التاريخ والذاكرة الإنسانية، ويستدعي جهودًا عاجلة لإعادة إحياء هذا التراث وحفظه. إعادة ترميم التراث تحتاج فرقًا متخصصة، أرشفة رقمية للمخطوطات، وبرامج لإعادة فتح المساحات الثقافية والعمل الإبداعي كجزء من التعافي.

كل ما سبق لا يمكن فصله عن واقع الإدارة والتمويل، الإعمار يحتاج أموالًا طائلة، لكن الأهم من المال هو الشفافية وإشراك المجتمع المحلي في كل قرار، وتمكين القطاع الخاص والكفاءات المحلية بدل أن يكون العمل مجرد عقود خارجية لا تعيد قيمة للاقتصاد المحلي. إدارة محكمة، آليات رقابية، خطط بطاقات عمل واضحة، وشراكات مع دول ومؤسسات تشغل الأموال لصالح الحياة كلها عوامل لكيلا يتحول الإعمار إلى واجهة مؤقتة.

أخيرًا، إعادة بناء غزة يجب أن تبدأ بإعادة بناء الإنسان قبل الحجر، وتحتاج الى خطة طويلة الامد تعطي الأولوية للصحة والتعليم والإسكان والحماية النفسية، ترافقها برامج لحماية التراث وإعادة تشغيل الاقتصاد المحلي، وتضمن الاستجابة الفورية للاحتياجات الطارئة من الغذاء والمياه والدواء والوقود، غزة تستحق مشروعًا يكرم شهداءها ويعيد إلى الناجين كرامتهم وأملهم، مشروعًا لا يقدم كصدقة مؤقتة بل كشراكة طويلة الأمد تستثمر في الإنسان لكي يصنع المستقبل الذي يليق بكل تضحياته ،على العالم ان ان يعرف بان غزة ستكون المقياس ان احسنا الاداء سنكون قد عبدنا طريق منع تكرار المأساة وطريقة التعامل معها ان حصلت ،حمى الله غزة واهل غزة.