غريتا تونبرج تعري مدّعي الإنسانية ومجرمي الحرب

في عالم يتغنى بالقيم ويصمت أمام الألم، تظهر فتاة واحدة لتكشف التناقض الكبير بين الكلام والواقع، ولتسلط الضوء على ما يخفيه الصمت الدولي، وتتحول إلى رمز للصمود والمقاومة. هذه هي غريتا تونبري، الصرخة الأقوى في وجه من يدّعون الإنسانية بينما تُنتَهك كرامة الإنسان.
ولدت غريتا تونبري في ستوكهولم، السويد عام 2003. لم تكن طفلة عادية، فقد كانت مختلفة منذ صغرها، متأملة وصامتة أحيانًا ومتمردة أحيانًا أخرى. كانت تعاني من متلازمة أسبرجر واضطرابات أخرى، وهذه الإصابة ربما كانت سببًا في امتلاكها عزيمة حديدية، وميزتها بالصدق والوضوح.
انخرطت باكرًا في الاحتجاجات على تلوث المناخ، وكانت من ضمن المطالبين باتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة التغير المناخي. هذه النشاطات أوصلتها إلى العالمية، لفتت الأنظار في مؤتمرات الأمم المتحدة، وحازت كلماتها على اهتمام العالم. لم تقتصر جهودها على البيئة، بل توسعت لتشمل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وأصبحت صوتًا للمظلومين في كل مكان.
وفي سياق دعمها لغزة، بدأت غريتا تركز على قضية الفلسطينيين، ربطت أزمة التغير المناخي بالظروف الإنسانية الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون تحت الحصار. أعلنت دعمها لحقوق الأطفال والمتضررين من القصف والتهجير، وشاركت في فعاليات رمزية تضامنية، مؤكدة أن المعاناة الإنسانية جزء لا يتجزأ من مسؤولية العالم. كان نشاطها في هذا المجال أقل بروتوكولية، لكنه حمل رسائل قوية من خلال بياناتها ومشاركاتها في القوافل البحرية التي حاولت إيصال مساعدات رمزية إلى غزة.
وفي هذا الإطار، نشأت مبادرة "أسطول الصمود" كرد فعل على حصار غزة الطويل. بدأت كمبادرة دولية يقودها ناشطون حقوقيون من عدة دول، بما في ذلك السويد وإيطاليا واليونان، ودول عربية وإسلامية مثل تركيا وماليزيا وتونس. ساهمت هذه الدول ومنظمات المجتمع المدني بدعم معنوي ولوجستي للناشطين، وكان الهدف إرسال رسالة تضامن قوية، وإظهار أن المجتمع المدني قادر على تحدي الحصار ورفع الصوت عن المعاناة الإنسانية.
حين التحقت غريتا بالقافلة، لم تكن تبحث عن البطولة، بل كانت تحمل حليب الأطفال وطعامًا ودواء. وعندما اقترب القارب من سواحل القطاع، اعترضته البحرية الإسرائيلية. حسب شهود العيان، تم سحب غريتا من شعرها وضربها ووُضعت في مواقف مهينة، وأُجبرت على تقبيل العلم الإسرائيلي. أفاد الشهود أنها تعرضت لإذلال متعمد أمام الآخرين لتكون عبرة، كما انتُهكت كرامتها وتم حرمانها من الطعام والماء، وكانت في وضع غير مريح. إصرارها وصمودها وتحدي سجانيها شكل اختبارًا للقيم الإنسانية في مواجهة القوة العسكرية.
على عكس رواية الشهود والمحامين، كانت الرواية الإسرائيلية مختلفة تمامًا؛ فقد نفت حكومة إسرائيل قيام جنودها بأي من المشاهد التي رواها المتضامنون، وقال المتحدثون إن جميع الناشطين عوملوا ضمن القانون، وحصلوا على الغذاء والماء والرعاية الصحية. وبحسب الرواية الإسرائيلية، فقد اعترض القارب ضمن حصار بحري قانوني، وتم التعامل مع كل الأشخاص بما يضمن السلامة والأمن، وتم ترحيل غريتا وثلاثة نشطاء آخرين إلى بلدانهم بعد إجراءات قانونية رسمية، بينما رفض آخرون التوقيع على الترحيل وطالبوا بحقوقهم القانونية.
المحاكم الدولية التي سبقت وأدانت قادة إسرائيل بجرائم حرب أبقت الباب مفتوحًا لوضع علامات استفهام حول الرواية الإسرائيلية؛ ففي نوفمبر 2024 أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق قادة إسرائيليين بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك استخدام التجويع كأسلوب حرب، والقتل العمد، والاضطهاد خلال العدوان على الشعب الفلسطيني. وعلى صعيد آخر، أصدرت محكمة العدل الدولية في يناير 2024 قرارًا يأمر إسرائيل باتخاذ إجراءات مؤقتة لمنع الإبادة الجماعية في غزة، ما يعكس القلق الدولي من الممارسات الإسرائيلية ويعزز مصداقية الاتهامات الموجهة لها في حادثة غريتا تونبري.
أما حكومة السويد، فقد تابعت القضية بقلق، وأجرت اتصالات دبلوماسية مع إسرائيل، وطالبت بمعاملة إنسانية للناشطين وحقهم في الاتصال بالمحامين، لكنها لم تبذل ما يكفي من جهد ولم تشر إلى أن ما حدث يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، مما أوجد شعورًا واسعًا بين الناشطين ووسائل الإعلام بأن السويد لم تقدم الدعم الكافي، وأنها تحسب خطواتها أكثر من حساب خطوات حماية مواطنيها ورفع الصوت في مواجهة انتهاك كرامتهم.
ما جرى مع غريتا ليس مجرد حادثة فردية، بل مرآة تظهر تناقض القيم الغربية. تكشف كيف يمكن أن تصمت الحكومات وتكتفي بالكلام بينما يُهان مواطن مسالم في المياه الدولية، لكن ما جرى يعتبر درسًا في الصمود والتحدي، مما حول الفتاة السويدية إلى رمز لأمل الشعوب المستضعفة، وأن الخذلان الحكومي لا يضعف المبادئ بل يبرز قوة من يتجرأ على قول كلمة حق في زمن أصبح فيه الصمت علامة خنوع.
وهكذا، تظل قصة غريتا والأسطول رسالة مفتوحة لكل من يرفع صوته للعدل والكرامة، تقول إن الأمل موجود رغم الخذلان، وأن التضامن الحقيقي لا يقتصر على الأقوال بل على الفعل. الشعوب التي تصمد في وجه القمع والظلم يمكن أن تصنع فرقًا وتلهم أحرار العالم للوقوف في وجه الظلم ورفض الصمت، لأن الصمت يصبح شريكًا في الإهانة. تكمن القوة الحقيقية في صمود الإنسان الذي يرفض أن يخضع مهما كانت التحديات، وأن التضامن الدولي سواء من الدول الأوروبية أو العربية والإسلامية يظهر أن الإنسانية يمكن أن تتجاوز الحدود والسياسة، وأن العدل لا يعرف جنسية أو دينًا.