الإنسانية ومحمود عجور وضحى سهمود من ضحايا الإبادة الجماعية

2025-10-03 17:38:19

هؤلاء الأطفال – محمود، أحمد، أمير، زين، سمير، ليث، كريم، أمل وأحلام، حنان ورهف وسلام، وكثيرين آخرين – يشكلون فسيفساء الطفولة الفلسطينية الممزقة. كل طفل منهم يحمل ألمًا خاصًا، وكل قصة تصرخ بصوت الطفولة الذي لا يمكن أن يخفت.

في غزة، حيث تصبح أصغر تفاصيل الحياة معركة بقاء، يولد الطفل مثل فراشة تقاوم الريح. محمود عجور من شمال قطاع غزة فقد ذراعيه في انفجار خاطف، واستيقظ ليجد أن العالم قد تغير، وأنه لن يستطيع بعد اليوم أن يعانق أمه كما كان يفعل. يسأل بعينين مليئتين بالحزن كيف سأعانق أمي بعد الآن؟
ومع ذلك، يظل قلبه يرفرف بأجنحة الحلم، حلمه ليس مجرد لعبة، بل طائرة تحلق في السماء، وكرة تلمس قدميه، وطفولة لم يمتد إليها الموت بعد.
أما أحمد، من الشجاعية الذي فقد ساقيه، لكن روحه لم تهزم. فقد ساقيه أثناء هروبه من القصف، لكنه لا يزال يحلم. رغم الألم، يسأل أمه عند رؤيتها: "أمي، كيف سأصل إلى المدرسة؟ وكيف سأحضر لجدتي أدويتها؟ وكيف سأجد حقيبتي التي كانت كل أشيائي؟" قد تكون ساقاه مبتورتين، لكن روحه تجرؤ على الركض في الطرقات التي لم يعد قادرًا على المشي فيها، لتثبت أن الحياة أكبر من أي فقد.

أمير، ابن أربعة عشر عامًا من بني سهيلا، عاجله صاروخ وهو يودع صديقه هيثم ابن المواصي الذي استشهد أثناء بحثه عن حليب لأخته الرضيعة. كان امير يبكي صديقه ويوصيه بأن ينقل السلام لجده لأمه الذي توفي وهو ينام في العراء. وفي طريق العودة من المقبرة، عاجله صاروخ آخر وأخذ كل أعضائه إلى العلى.

زين المولود في المغازي بلا كف، كان يسأل أمه ضحى: "وين راحت ايدي؟" فتجيبه بحزن: "ذهبت إلى الجنة." في يوم استشهاد أمير، ابن خالته، وهو يودعه، طلب منه أن يسلم على ايده. الاحتلال لم يمهل زين طويلًا، فالحقه وضحى بأمير وبيده.

سمير المولود في خان يونس، الذي أطفأ الله بصره لتتضاعف بصيرته، يرى العالم عبر قلبه. لا يرى ألوان الحقول ولا ضحكة أخته مريم، لكنه يسأل أمه بلهفة: "كيف سأرى جمال أختي وهي تكبر أمامي؟" صمته لا يمنع الضحك من أن يملأ قلبه، ولا يمنع قلبه من أن يتذوق جمال اللحظات الصغيرة التي لم تعد عيناه قادرة على التقاطها.

الطفل ليث ابن دير البلح، سقط صاروخ من فئة الاغبياء بجانبه أفقده سمعه، يقف الطفل الذي فقد محاولًا التقاط الحروف من حركة شفاه أبيه. يحدق في السماء ويسأل: "كيف سأسمع الأذان؟ وكيف سأسمع صوتك يا أبي؟ وكيف سأسمع المعلق الرياضي يصف الهدف الذي حققه رونالدينيو لفوز فريقه على ليفربول؟"

كريم ابن الوسطى، عاجلته شظية من صاروخ من فئة الاذكياء افقدته لسانه إضافة الى جروح كثيرة لكنها سطحية، لم يعد يستطيع رفع صوته مع زملائه في المدرسة لإنشاد "فدائي فدائي"، لكنه يصر على كتابة أحلامه على الورق، أن يرسمها، أن ينطق بها من قلبه ويقول حتى لو صمت فمي، فلن يصمت قلبي.
أمل وأحلام، ضاعتا في التيه والوحدة عندما سقط صاروخ من الاوزان الثقيلة على بيتهم في شارع الوحدة؛ أمل جلست على رصيف بارد تنتظر صوتًا مألوفًا يناديها، وأحلام كانت الناجية الوحيدة من عائلة امتدت عبر الأزمنة والبيوت، تقف وحيدة تتساءل عن اسمها وعن جدتها، عن ضحكات العائلة التي لم تعد موجودة. ليس بالضرورة أن يعني التيه المكان فقط، بل يمكن أن يعني الوقت والحياة نفسها، حيث يصبح الأمان حلمًا بعيد المنال.
سلام ابنة الشابورة، جرفتها أمواج النزوح إلى أرض غريبة، لا تعرف وجوه الناس ولا لغتهم، لا تجد ألعابها، ولا تعرف طريق العودة إلى زقاقها الصغير، وتكرر السؤال: "كيف سأعود إلى شارعي؟ وكيف سأجد ألعابي؟" ولأن إدراكها محدود، اعتقدت أن الوطن بعيد بعد النجوم، رغم أن الوطن يسكن وجدانها.
حنان ابنة رفح، طفلة الست سنوات، صارت أمًا لأختها الصغيرة رهف، فتحملها على ظهرها وتسير بها نحو المجهول وبين ركام البيوت. رغم صغرها، أصبحت في لحظة أوسع وأكبر من الكون، تتساءل: "كيف سأحمي رهف وأنا صغيرة؟ من أين سأطعمها وأنا لا زلت أحتاج لمن يطعمني؟" حنان ليست وحدها؛ هي كل الأطفال الذين اضطروا أن يكبروا بسرعة البرق لان القذائف قد لا تسمح لهم ان يكبروا بشكل طبيعي، عليهم أن يحملوا عبء من حولهم، وأن يظلوا أملًا ينبض في قلب الخراب.

حتى وإن بُتر الجسد أو فُقدت الحواس، أو حتى عندما يتوه الأطفال بين الركام، تظل الطفولة قوة لا تُقهر، والأمل أعمق من أي جرح، يعلموننا أن البقاء ليس مجرد نجاة من الموت، بل القدرة على أن نحلم ونضحك ونحب، رغم كل ما أخذته الحرب منهم.

فلسطين ستنتصر وستعود سلام الى حيها المدمر لتسقي قبر ابيها وتزرع قرنفلة، وسيكتب التاريخ بحروف من ذهب أسماء وقصص أكثر من خمسين ألف طفل لم تسمح الصواريخ ان يكبروا، خلال عامين من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، واضعافهم ممن جُرحوا، ستلاحق لعنة التاريخ كل حكام الكيان الصهيوني ومن ساندهم ووالاهم، بغض النظر عن دينه ولونه وعرقه.