ياسمين ناصر... التأثير الرقمي وصوت غزة الإنساني

2025-09-30 19:49:49

منذ بروز وسائل التواصل الاجتماعي وانتشارها الواسع، تصاعد استخدام مصطلح المؤثر ليصبح حاضرًا بقوة في النقاشات الإعلامية والأكاديمية. ومع ذلك، ورغم شيوعه، ما يزال هذا المصطلح يفتقر إلى تعريف جامع يحدد معناه بدقة. فهل يقاس التأثير بعدد المتابعين والإعجابات والتعليقات، أم بما يتركه حضور الشخص من أثر ملموس في حياة الناس وأفكارهم وسلوكهم؟

في عشرات المؤتمرات والدورات التي تناولت هذا الموضوع، ظللت أطرح رؤية مختلفة مفادها أن المؤثر الحقيقي ليس من يحصد الأرقام الافتراضية، بل من يترجم وجوده الرقمي إلى فعل ملموس يغير حياة الناس ويفتح أمامهم أفقًا جديدًا للتفكير.

ومن غزة برز عشرات المؤثرين وصنّاع المحتوى كونهم أصل الحكاية وصوتها المباشر، بينما من خارجها برز نموذج يجسد المعنى الأعمق للتأثير، هي الأردنية الشيف ياسمين ناصر. فهي لم تتعامل مع الطهي كترفيه عابر أو مجرد وصفات لإشباع البطون، بل قدّمته كعلم وثقافة وممارسة حياتية. والأهم أنها حولت منصاتها الرقمية إلى مساحة تلتقي فيها الإنسانية بالمعرفة، وكان حضورها الأبرز خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، حين بادرت إلى تقديم وصفات عملية تراعي شح الموارد وتبتكر بدائل لما هو مفقود. لقد صنعت بذلك جسرا إنسانيا مع الغزيين، الذين تفاعلوا مع محتواها وطبقوا وصفاتها وسط ظروف قاسية، فكانت أقرب إليهم من أي وقت مضى.

أسلوبها البسيط وعفويتها ولغتها الدافئة ساعدتها على الوصول إلى قلوب الملايين، وأبرزت القضية الفلسطينية عامة وما يجري في غزة خاصة بطريقة غير مباشرة، لكنها عميقة التأثير. وبالتمعن في طبيعة التعليقات على محتواها، يظهر بوضوح حجم التقدير والإشادة من الفلسطينيين وغيرهم، وكذلك حالة الحوار الإيجابي التي خلقتها بين جمهورها.

إلا أن هذا الحضور الإنساني لم يمر دون ثمن. فمع تزايد تأثيرها واتساع صداه عالميًا، تعرضت ياسمين لحملة إعلامية شرسة من قبل مؤسسات الاحتلال، التي اتهمتها بترويج فكرة تجويع غزة، في محاولة للتشكيك في محتواها والتغطية على حقيقة الواقع. لكن هذه الهجمة كشفت في الوقت ذاته حجم قوتها التأثيرية ومدى الإزعاج الذي يسببه أي خطاب صادق يفضح التضليل الإعلامي ويكشف معاناة الناس.

تجربة ياسمين ناصر تقدم لنا صورة مختلفة عن المؤثر الرقمي. فهي تبرهن أن المؤثر الفعلي هو من يحمل رسالة واضحة وقضية جامعة، ويحوّل الهم العام إلى ثقافة وفعل. هو من يترجم الحس الجماعي إلى خطوات عملية يلمسها الناس في حياتهم اليومية، لا من يكتفي بالشعارات أو يسعى وراء صور مصقولة.

في المقابل، يزداد حضور من يطلقون على أنفسهم لقب مؤثرين، بينما لا يقدمون سوى شخصنة للخطاب أو الدخول في دوائر الاتهام والجدل العقيم بحثًا عن الانتشار اللحظي. هؤلاء قد يثيرون ضجيجًا، لكنهم يفتقدون العمق والقدرة على تحويل التفاعل الرقمي إلى قيمة اجتماعية مستدامة.

إن ياسمين ناصر ليست حالة منفردة، لكنها مثال حي على كيفية توظيف المنصات الرقمية لأهداف إنسانية وثقافية أوسع. وبلا شك، هناك نماذج مشابهة في التعليم والصحة والفنون والمبادرات المجتمعية، جميعها تؤكد أن التأثير الرقمي الهادف لا يقاس بالانتشار السطحي، بل بقدر ما يضيف من وعي ومعرفة وقيمة.

المؤثر الحقيقي، كما يبرزه هذا النموذج، هو من يضع مهارته وخبرته في خدمة الناس، ويجعل من المنصة وسيلة لتوسيع الفائدة العامة، لا مجرد أداة للترويج الذاتي. وهذا هو الفارق الذي يحدد صدقية التأثير وعمقه ودوامه.

تجربة ياسمين ناصر تدعونا لإعادة التفكير في مفهوم المؤثر بعيدًا عن بريق الأرقام وضجيج المنصات. فالمؤثر ليس من يثير الجدل العابر أو يلهث وراء الشهرة، بل من يترك أثرًا يبقى في الذاكرة الجمعية ويساهم في صنع تغيير حقيقي. وفي زمن تتنازع فيه السوشال ميديا بين الترفيه والسطحية، تظهر نماذج مثل ياسمين لتذكرنا بأن المنصات الرقمية يمكن أن تكون أداة لبناء الوعي، ودعم القضايا، وتعزيز القيم الإنسانية.

إن الدرس المستفاد أن التأثير الحقيقي لا يُشترى ولا يُقاس بالمشاهدات وحدها، بل يُصنع بالفعل والصدق، وبالقدرة على حمل هموم الناس وتحويلها إلى ثقافة وفعل. وهذا هو الطريق الذي يجعل من المؤثر شخصية عامة تحمل رسالة، لا مجرد اسم عابر في عالم افتراضي سريع الزوال.

مدير عام مؤسسة «إعلاميون بلا حدود – فلسطين