الاستخراب وصناعة القوة الصلبة والناعمة

تتغلب الأمم في المواجهة العسكرية عبر قدرة الغُزاة أو الفاتحين على اكتساح أراضي الدول الأخرى، وهنا تعدّ القوة العسكرية ممثلة بالقدرة على الإعداد والتجهيز، واعداد الخطط العسكرية وحشد القوات وتعبئتها وتدريبها، ومباغتة العدو، وتحديد الهدف أو الغاية، والتحالفات وفهم مستويات القوة والظرف والمكان المناسب... وغيرها من استراتيجيات الحرب وتكتيكاتها هي الأصول المعتمد عليها لتحقيق الغزو أو الفتح أهدافه.
القوة العسكرية والاقتصادية
وفي ظل طغيان اللجوء للقوة العسكرية عبر مراحل التاريخ لجأت مختلف الدول التي تسعى للتوسع، أو التي تدافع عن نفسها الى تحسين قدراتها العسكرية بالاتجاهات البشرية والمادية، فكان السيف ثم المدفع وصولًا الى البندقية، فالأساطيل البحرية فالطائرات فالمسيّرات والحرب الالكترونية. ولم تتخلى دولة تعدّ نفسها كبرى أو عظمى، أو حتى الدول الضعيفة عن أسلوب امتلاك القوة العسكرية والتحالفات الاقليمية أو الدولية لحماية نفسها عن هذا السعي.
إن الدول الكبرى مهما كانت قادرة على الصعيد العسكري قد لا تدوم طويلًا حين يتبخر الهدف أو القوة العسكرية أو الرمز، أو حين يتعارك الغزاة الطامعون. لذا أصبح امتلاك القوة الاقتصادية -خاصة عند الشعوب أو الامبراطوريات التوسعية- مرتبطًا بالثروة المادية التي أوجدت الطبقات ثم حفّزت الاستعمار الغربي-الأوربي أساسًا، مما وسّع المستعمرات (المُستخربات) على حساب قتل وسحق وإذلال وإفقار واستعباد أصحاب البلاد الأصليين، وعليه تصبح القوة الاقتصادية من الأصول لدى الدول العظمى التي توجب أن تمتلك قوتها العسكرية ثم الاقتصادية.
فرادة الحضارة العربية الاسلامية
انفردت الحضارة العربية الاسلامية في فتوحاتها بحملها رسالة سامية، فلم تقتطع من أراضي الغير ما اعتبرته أرضًا عربية، (أنظر فرنسا التي اعتبرت الجزائر فرنسية، وهكذا في أمريكا وأستراليا وغيرها...)، ولم تقم باستغلال الشعوب أو استعبادهم وإفقارهم، كما لم تقم بنهب ثروات بلادهم وكفّ أيديهم عنها، كما لم تقم بشيطنتهم أو اتهامهم بالبربرية وغير الانسانية، وإنما كان جلّ أهدافها الثقافية الدينية نشر رسالة المحبة والاسلام ممثلة بالدين الاسلامي، وفي السياق الامبراطوري كانت السيطرة على الأرض موجهة للأعداء بالخارج، وليس ضد أهل البلاد الذين كانوا غالبًا متساوين أو بنسب ما مع الفاتحين والحكام.
الاستعمار(الاستخراب) والقوة
استخدمت الدول الغربية الاستعمارية (البرتغال واسبانيا من القرن 15، ثم بريطانيا وفرنسا أساسًا...) أطماعها الاستعمارية الاستخرابية مغلّفة بالبعد الثقافي (والديني) لتبرر سرقة الخبز من أيدي السكان الأصليين، كما سرقة بلادهم ونهبتها، كما لتبرر استقرار غزوها الدموي وقتل الملايين من الأمم والشعوب الواقعة تحت استعمارها (استخرابها) أو احتلال أرضهم الى الأبد.
ومع تطور البشرية وتنورها أكثر ظهر معنى الهدف أو الغاية (السامية) أو (التبرير) كأحد أهم الأدوات التي تستخدمها الشعوب الغازية في مواجهة تلك الواقعة تحت الاستعمار، لاسيما أن قصة حضارية الرجل الأبيض العنصرية وتفوقه! قد أصبحت مبررًا للغازي الغربي العنصري ضد من أسماهم الهمج والبرابرة ما يبرر للمستعمر حربه وإبادته الجماعية وجرائمه ضد الشعوب الأخرى التي نُزعت انسانيتها منذ البداية، (استخدم هرتسل في كتابه دولة اليهود نفس الغاية أي الحرب-حربه- ضد البرابرة/الوحوش-العرب الفلسطينيين- كمبرر للوطن القومي ليهود العالم لسرقة فلسطين) ويسلّح المستعمر بأداة تبريرية تعصِمه من النظر الى أصحاب البلاد الأصليين كبشر أو كعناصر دنيا يجب التعاطف او التسامح معها.
حتى الحربين الأوربيتين (المسماة العالميتين) الاخيرتين بالقرن العشرين كانت القوة العسكرية والقوة الاقتصادية والسعي للهيمنة والتوسع وتشكيل الامبراطوريات هي الهمّ الرئيس لإدامة السيطرة الغربية على العالم بعد أن خفت صوت الادعاءات بجهل أوبنقص عقول تلك الشعوب الواقعة تحت الاستعمار! وأن الاستعمار أفضل لها؟! وإثر نهوض الأمم وسعيها للاستقلال. لكن الاستعمار الغربي على طوله في البلاد المختلفة قد استخدم كل أدواته الحربية والاقتصادية الاستهلاكية والتي منها (الثقافية) ليحقق الذيلية والاستتباع لتلك الأمم، وهو الذي مازالت آثاره قائمة حتى اليوم في عديد الدول المستقلة.
مع التقدم الاقتصادي والتقاني (التكنولوجي) وتقارب الأمم بفضل التقانة تحولت الى قرية صغيرة بدأ النظر يتجه نحو امتلاك قوة أخرى وجب استخدامها للتأثير من جهة، أو لإدامة السيطرة أوالهيمنة عبر وسيلة غير القوة الخشنة (الاقتصادية والعسكرية، والصناعية والتقانية...) وتجلت فيما أصبح يعرف بالقوة الثقافية أو القوة الناعمة عبر الفكر والسياسة والدبلوماسية والعمل الشعبي والإعلام والمنظمات غير الحكومية والأزياء والرياضة والطبخ والسينما والتبادل المعرفي... ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها.
التعريف والأسس
القوة الناعمة هي القدرة على التأثير في الآخرين، وجذبهم بحيث يصبح ما تريده أنت هو نفسه ما يريدونه، وبحيث تصبح قيمك وثقافتك ومبادئك وطريقتك في الحياة هي النموذج والقدوة والأسوة التي يودون احتذائها. ولك النظر الى انتشار الوجبات السريعة (وهي غير الصحية أصلًا) بعلاماتها التجارية الشهيرة من الولايات المتحدة لباقي أنحاء العالم ما يمنح أمريكا قوة ناعمة.[1]
كما لك النظر الى حالة المشرقيين من عرب كنموذج مسيحيين ومسلمين وحالة الانبهار الذليل بالغرب الاستخرابي/الاستعماري واتباع خطواته القيَمية والاستهلاكية مهما كانت! بحيث أصبحت الأمم العربية والإسلامية مقيّدة ومأسورة للعديد من انتاجات (مادية، ثقافية، فنية، ترفيهية...) الغرب المهيمن والتي في كثير منها لاتتفق مطلقًا مع ثقافة حضارتنا العربية والإسلامية-المسيحية المشرقية المميزة سواء في القيم الأسرية والدينية أو في الأكل أو اللبس أو اعتماد اللغة الانجليزية، وتحقير لغتنا العربية العظيمة، لغة القرآن الكريم، أو لغاتنا المشرقية وما نراه من انعواج الألسنة ومدح الغرب الاستعماري وانفتاحه، على حساب تحقير الذات.
عرّف المنظر جوزيف ناي[2] القوة الناعمة قائلاً "إنها القدرة على الجذب لا عن طريق الإرغام والقهر والتهديد العسكري والضغط الاقتصادي، ولا عن طريق دفع الرشاوى وتقديم الأموال لشراء التأييد والموالاة، كما كان يجري في الاستراتيجيات التقليدية الأميركية، بل عن طريق الجاذبية، وجعل الآخرين يريدون ما تريد".
ونحن نرى أن أمريكا (وعلى غرارها فعل الكيان الصهيوني) يحاول أن يرسم نفسه المدافع عن الديمقراطية!؟ وعن حقوق الانسان. بينما تعمل روسيا على رسم نفسها المحافظة على القيم الشرقية وانفتاح الحضارات المشرقية وتميز كل منها واحترام ذلك (أنظر المنظر الروسي الشهير مؤخرًا "ألكسندر دوغين" الذي يعد عقل الرئيس بوتين). فيما الصين-وفي إطار المنافسة العالمية- تسعى ضمن القوة الاقتصادية الداهمة ومع القوة الناعمة الى الاستثمار بالتعليم وثقافة كونفشيوس، والصناعة للجذب والنموذج الاقتصادي الجبار، ودعم الدول الفقيرة بالبرامج.
إن للمصطلح أو المفهوم تعريفًا آخر حيث يمكننا القول أن الحرب أو القوة الناعمة تعني[3] استخدام وسائل غير مباشرة ليست وسائل عسكرية أو اقتصادية، ليست وسائل فقط أو إكراه، بل هي وسائل غير مباشرة من خلال الصور والشرائط (الأفلام) والمصطلحات والأفكار، والإعلانات التي تعرض بشكل متواتر بحيث يعتاد الانسان عليها وتصبح جزءاً من تفكيره، والهدف من الحرب الناعمة أن تجعل الطرف الذي يتلقى هذه الحرب أو يتعرض لها أن يُفكر كما يريد من يدير هذه الحرب، وهو يعتقد أنه يفكّر كما يريد هو. [4]
هذه هي الحرب الناعمة، ان الانسان يعتقد أنه يفكر أو يفعل كما يريد، لكن فعلياً يفكّر ويسلك ويفعل كما يريد مدير هذه الحرب أو القوة، كأن يعتقد الشخص مثلاً من خلال تلك الوسائل ان المجتمع الذي يعيش فيه هو مجتمع سيء (أمة فاشلة، حكومة تافهة، قائد فاسد....) وأن الحياة التي يعيشها ليست مثل الحياة الغربية العظيمة والنموذج المبهر!؟ ما يسعى الى خلق شعور بعدم الرضا والتململ والاعتراض، في حين أن الواقع قد لا يكون كذلك ويكون الهدف من الحرب الناعمة هذه هو خلق مثل هذه الحالة من الفوضى أو الثورة أو الملل أو الانقلاب أو التصدع الاجتماعي.
الأركان والوجوه للقوة الناعمة
يرى الأستاذ علي محمد الحاج حسن، في كتابه الحرب الناعمة، الأسس النظرية والتطبيقية، بأنّ القوة الناعمة تقوم على خمسة أركان وقدرات هي:
1 – القدرة على تشكيل تصوّرات ومفاهيم الآخرين وتلوين ثقافتهم وتوجيه سلوكياتهم.
2 – القدرة على تشكيل جدول الأعمال السياسي للآخرين سواء الأعداء أو المنافسين.
3 – القدرة في جاذبية النموذج والقِيم والسياسات وصدقيتها وشرعيتها بنظر الآخرين.
4 – القدرة على فرض استراتيجيات الاتصال على الآخرين "من يتصل أولاً وكيف".
5 – القدرة على تعميم رواية وسرد الوقائع "الفائز اليوم من تفوز روايته للأحداث".
بينما يميّز "جوزيف ناي" صاحب المصطلح بين مقاربتي القوة: القوة كموارد والقوة كعلاقة. ويعتبر أنّ القوة كعلاقة أو سلوك لها ثلاثة وجوه وغالباً ما تكون مختلطة:
ـ الوجه الأول هو "التغيير بالإمرة" أيّ بتوجيه أمر للآخر لتغيير سلوكه.
ـ الوجه الثاني السيطرة على الأجندات/المخططات/جداول الأعمال، بحيث يمكن من خلال المؤسسات الموالية تشكيل تفضيلات الآخرين، وبالتالي تحديد قواعد اللعبة عبر صناعة جدول الأعمال.
ـ الوجه الثالث وهو تشكيل التفضيلات من خلال القدرة على منع وقوع تضارب بين مصالحك وبين مصالح الآخرين، مما يدفعهم دوماً للامتثال لك.
موارد القوة الناعمة، وحربها
كما يعتبر جوزف ناي أن موارد القوة الناعمة ثلاثة أيضاً هي:
ـ الثقافة التي تساهم بشكل أساس في عملية جذب الآخرين.
ـ القيم السياسية عندما يتصرّف الفاعل السياسي وفقاً لها في الداخل والخارج معاً.
ـ السياسات الخارجية بخاصة عندما بنظر إليها الآخرون على أنها شرعية وأخلاقية.
يقول الكاتب نضال صافي في إطار التمييز بين القوة الناعمة وحرب القوة الناعمة: إنّ الحرب الناعمة تعتمد على أداة القوة الناعمة، علماً أنّ عدم إعلان الدول عن شنّ مثل هذه الحروب، لا ينفي حدوثها، فهي جريمة بدون بصمات، وهذا ما يعزز فرضية حصولها في كافة المجالات.
ويشير العميد م. ناجي ملاعب، في قراءة هامة عن الحرب الناعمة في وطننا العربي والانتقال من الحروب الصلبة إلى الحروب الناعمة، الى التالي: أن للحرب الناعمة وظائف جديدة بحيث أصبحت تقوم "على تشكيل التصورات العامة، وبناء البيئة السياسية الملائمة لترسيخ قواعد السياسات المطلوب تثبيتها وتمريرها والتسويق لها، ونزع الشرعية والمشروعية والصدقية عن الخصم، وتغيير شخصية النظام والقيادة لدى الخصم، وقلب الحقائق وتحويل نقاط القوة إلى نقاط ضعف ومن فرص إلى تهديدات".
كما أنّ الحرب الناعمة من قِبَل الدول المهيمنة أو من الاحتلال أو من الأنظمة الظالمة والفاسدة تعتمد على رفع شعارات ومطالب الناس واستغلالها، فلا يمكن للحرب الناعمة أن تنجح إذا ما رفعت شعارات وتبنّت سياسات معادية بالظاهر لمصالح الدولة المستهدفة، فالقوة الناعمة بالعمق تقوم على رفع شعارات وقضايا مرغوبة ومحبوبة، والبحث عن قيم مشتركة مع الطرف المستهدف مثال: الحرية، الحداثة، الديمقراطية، حقوق الإنسان، وإلى ما هنالك من قيم يسعى إليها الفرد.
صناعة أم مواجهة الحرب الناعمة؟
في المواجهة أية مواجهة، أو النضال والكفاح والمقاومة والصراع بين الدول أو المنظمات فإن الواجب يقتضي استخدام كل الأسلحة أحيانًا، أو بعضها وفق الظرف والتقدير القيادي، وعليه قد تسير الأدوات في خطوط متوازية أو متتالية ما يرتبط بالنظرة القيادية والمستقبلية وفهم الأمور والمتغيرات، وعليه فإنه يمكن (استخدام) الحرب الناعمة من هذا الطرف أو ذاك، ويمكن عند غزوه بالقوة الناعمة أن (يواجه)، وما بين الاستخدام والمواجهة للأداة أي الحرب/القوة الناعمة لا يمكن التفريط بوسائل القوة الأخرى والتي أشهرها العسكرية والاقتصادية والمعنوية و(الرسالية) حيث القدوة الحضارية المؤثرة وصناعة النموذج الجاذب.
أما كيف نصنع نحن قوتنا القوة الناعمة، أو نواجه غزوة القوة الناعمة من غيرنا فيمكننا الإشارة الى الأركان التالية:
1-فهم القوة التي نمتلكها وحُسن استخدامها، فنحن أمة تربت على الثقافة السامية ذات الرسالة المرتبطة بالإسلام العظيم، ثقافة القيم الأخلاقية السليمة، والمسلك الصادق (قول صادق وعمل)، ونحن أمة تربينا على الشرف والأمانة والاستقامة وعلى المحافظة والعفّة ما يتوافق مع الفطرة السليمة بعيدًا عن الحيوانية، وهي القيم التي يتوجب ترسيخها وبعثها وتنميتها بالنفوس من البيت أولًا فالمدرسة فالتنظيم المجتمعي، فالسياسي. ومثلها قيم وثقافة واخلاقيات الحرية والصدق وحسن التواصل والتفكر ومساعدة الآخرين (إغاثة الملهوف) والكرم والعفاف والمحبة (كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا."-المسيح عليه السلام، وحديث الرسول الأكرم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، والصدق والمصداقية، والكرامة الانسانية. وعدم الانحطاط الاخلاقي تشبهًا بالغرب، الذي يحوّل موضوع حقوق الانسان بنسخته الجديدة الى حقوق جسدية شهوانية، وحقوق شواذ ومنحرفين عن الطبيعة فقط لا غير.
2-إن فهم الذات الشخصية، وقيم الأسرة والذات الجمعية أساس لبناء المجتمع المحصن، وهو بالإيمان بقوة الفرد، وقوة الفرد ضمن العائلة كأساس والمجموع عامل قوة ضد الفردانية الشهوانية الغربية، التي بتسلطها وبإظهارها النموذج والقدوة!؟ تخرّب المجتمعات وتستتبعها، وتقضي على تميّز الحضارة العربية الإسلامية المنفتحة والرحبة بالإسهامات المسيحية المشرقية التي تميزنا، وتقضي على كل الحضارات المشرقية وتلاقحها، تحت ادعاء تفوق الحضارة الغربية المنسلخة عن الدين والقيم الشريفة.
3-استخدام كل وسائل الحرب/القوة الناعمة من إعلام وسياسة ودبلوماسية وبرامج، وشرائط (أفلام) وأغاني، ومسلك ملتزم، ومسلسلات وترويج لأعلامنا وأفكارنا الجامعة كأمة، ومن دبلوماسية ووسائل تواصل اجتماعي...الخ لبناء وترويج رسالتنا السامية، وثقافتنا الرسالية المميزة، سواء كأمة أوكمجتمع أوكتنظيمات ما يحول هذه القيم الى قِبلة، والى نموذج يشار له ويُتّبع.
4- لامناص من تحصين الذات بثلاثية الإيمان المطلق بالله سبحانه وتعالى، وأننا أصحاب رسالة سامية ثانيًا، وثالثًا الإيمان والسلوك والعمل معًا، بما يحقق قيمنا الرفيعة ونشرها أو الاشعاع بها، إنها القيم الرصينة والمنفتحة التي تعي فتفرز، وتقبل الجيّد من ثقافات الآخرين بمن فيهم الغرب مثل ثقافة النظافة والنظام والقواعد والعلم والقانون...الخ، وتكرّس الندية والاحترام المتبادل، وترفض التبعية العمياء والانبهار الإلحاقي بالغرب، كما ترفض القيم الاستهلاكية الغربية، والانحطاط الخلقي.
5-إن امتلاك المجتمع (والأمة، والتنظيم...) رسالة وهدف وخطة واستراتيجية مواجهة واضحة ترسم صورة المؤسسة أو المجتمع وباستخدام كافة الأدوات تعد وسيلة هامة لممارسة القوة الناعمة، وتحقيق الاشعاع والجذب، وكسب المعركة وضمن خماسية (الفهم والإخلاص، وحُسن استخدام الوسائل، والالتزام والتعاون) بين جميع الأفراد والمؤسسات.
[1] فطنت فرنسا الاستعمارية لأهمية الثقافة (او الحرب الناعمة) في نهايات القرن التاسع عشر، ففي حين كانت بريطانيا تحاول احتلال أراضٍ تحكمها الدولة العثمانية، كانت فرنسا تفاوض الدولة العثمانية على افتتاح مراكز ثقافية لها في بيروت، ولذلك تعدُّ فرنسا من أوائل الدول التي أدركت أهمية القوة الناعمة واستخدمتها، وذلك قبل تطوير المصطلح والنظرية.
[2] أصر جوزف ناي على أن القوة الناعمة لم تكن مكملة للقوة الصلبة فحسب، لا بل ضرورية لها أيضاً. وجادل في كتابه الصادر عام 2004 ، "القوة الناعمة" (Soft Power)، قائلاً: "عندما نتجاهل أهمية جاذبيتنا بالنسبة إلى الدول الأخرى، فإننا ندفع الثمن"، حاثاً على نشر الدبلوماسية العامة بشكل مدروس أكثر.
[3] -أنظر تعريف الأستاذ طلال عتريسي.
[4] كتب جوزف ناي (1937-2025م) مقالًا-قبل وفاته-في مجلة السياسة الخارجية (فورين أفيرز) ينتقد سياسة الرئيس ترَمب في استعداء العالم وفرض الضرائب على القريب والبعيد معتبرًا أن بلاده تتخلى بذلك عن قوتها الناعمة التي حولت أمريكا لقوة جاذبة للشعوب.