المنطقة العربية أمام لحظة فارقة

يشكّل العدوان الإسرائيلي الذي استهدف قيادة حركة حماس في الدوحة تطوّراً بالغ الخطورة، وتجاوزاً لخط أحمر واضحاً، لعدة أسباب. ... أولاً، لأن وجود مقرّ الحركة في قطر، البلد الوسيط، تم بطلب أميركي وموافقة إسرائيلية، مع تجديد التعهدات أخيراً بعدم استهدافه. وثانياً، لأن العدوان استهدف حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة، يرتبط معها باتفاقية دفاعية، ويحتضن أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة. وهذا يعني أن حكومة نتنياهو تجرّأت على المساس بمصالح واشنطن نفسها، في وقت تعيش فيه إسرائيل عزلة دولية غير مسبوقة، كما وصفها نفتالي بينت، أحد أبرز قادة المعارضة والمرشّح الأوفر حظاً لرئاسة الحكومة المقبلة إذا جرت الانتخابات كما تشير استطلاعات الرأي المستمرّة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023).
تنصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب من خطوة نتنياهو، رغم أنها لا يمكن أن تحدث من دون ضوء أخضر أميركي، ولكن الفشل له أب واحد أما النجاح فله آباء كثر، كما وصفها بالجنون عدد كبير من المراقبين والسياسيين والكتّاب الإسرائيليين. ومع ذلك، لا يُستبعد أن يتمسّك بالسلطة إذا لم تبلور المعارضة الإسرائيلية بديلاً متماسكاً عن الحكومة الحالية، عبر تأجيل الانتخابات بحجّة "الطوارئ" الناجمة عن الحرب، إذا ما أدرك أن حظوظه معدومة في الفوز مجدّداً. في هذه الحالة، ستتعمّق أزمات إسرائيل الداخلية والخارجية، ويكتمل الانقلاب الذي يقوده اليمين المتطرّف، والذي يستهدف هوية الدولة وطبيعة نظامها السياسي عبر إلغاء استقلال السلطات، وتعطيل الرقابة، وتحويل نتنياهو إلى حاكم مستبد، بما يجعل مصير إسرائيل، في الحد الأدنى، غامضاً ومجهولاً، والملفت أن نتنياهو دليل غروره واعتقاده أن القوة تحل كل شيء ولا حدود لها، واصل التهديد بملاحقة حماس في قطر وغيرها من البلدان رغم تعهد ترامب بأن ما حصل في قطر لن يتكرّر.
لم يعد استخدام القوة مقتصراً على "الأعداء" التقليديين، بل امتد ليشمل حتى الدول الوسيطة أو الحليفة
الرسالة الأعمق لهذا العدوان أنه يعكس تحوّلاً نوعيّاً في السياسة الإسرائيلية، إذ لم يعد استخدام القوة مقتصراً على "الأعداء" التقليديين، بل امتد ليشمل حتى الدول الوسيطة أو الحليفة. استهداف قطر، التي وصفها نتنياهو منذ عدة أشهر بأنها دولة معقدة ولكنها ليست عدوّاً، يأتي في سياق اعتداءات متواصلة على سورية، رغم ما أبداه نظامها الجديد من استعداد للتعاون الأمني مع إسرائيل، وصولاً إلى بحث اتفاق أمني معها. وهذا يؤكّد أن حكومة نتنياهو تعمل على إعادة تشكيل الشرق الأوسط عبر القوة العسكرية والعدوان وإقامة المناطق العازلة التي تبقى تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة، بما يشمل حتى تغيير الأنظمة "المعتدلة".
تنطلق هذه الرؤية من اعتبار المنطقة "رمالاً متحرّكة" بلا استقرار، فلا بلد أو حاكم مضمون استقراره، ما يستدعي، من وجهة نظر تل أبيب، تفتيت الدول العربية وتقسيمها على أسس إثنية وطائفية، لترسيخ حالة الصراع الدائم بينها. الغرض النهائي تكريس نموذج "الدولة الدينية" الذي جسّدته إسرائيل منفردة وتسعى إلى تعميمه، كما يظهر في إقرار قانون القومية الذي منح اليهود وحدهم حق تقرير المصير في فلسطين. وهذا القانون يمهّد الطريق لتسريع مشاريع التهجير والتطهير العرقي بحقّ الفلسطينيين في غزّة والضفة والداخل، وإحياء فكرة "إسرائيل الكبرى" التي تحدّث عنها أخيراً نتنياهو وقبله دونالد ترامب عندما قال إن إسرائيل صغيرة بحاجة إلى توسيع على حساب الشرق الأوسط الكبير.
يفترض بعد العدوان أن يغلق باب التفاوض، ويفتح باب الضغوط والعقوبات والمقاطعة والمساءلة، لأن من أمن العقاب يكرّر العدوان
وعلى خلاف حكومات إسرائيل السابقة التي اعتمدت نسبياً على الدمج، كما كان يقول شيمون بيريز، بين الإبداع والعقلية اليهودية والأموال والأسواق والأيدي العاملة العربية، أي "القوة الناعمة"، عبر التطبيع، والاختراق السياسي والثقافي والتكنولوجي، وإدارة الصراع وخلق الحقائق على الأرض لبلورة أمر واقع على مدى زمني طويل يجعل الحل الإسرائيلي الحل الوحيد الممكن، على خلاف هذا كله، تمضي حكومة اليمين المتطرف الحالية إلى حسم الصراع بسرعة وبالكامل: عبر ضم الأرض، وتهجير الفلسطينيين، والتوسّع الإقليمي عبر القوة العسكرية المباشرة. التطبيع بالنسبة لها ليس أولوية، بل أداة ثانوية إذا لزم الأمر.
ولا يمكن اعتبار ما جرى في الدوحة امتداداً تقليدياً للسياسات الإسرائيلية، بل هو نقلة نوعية: استهداف الوفد المفاوض في بلد الوسيط يعني عملياً إطلاق رصاصة الرحمة على المفاوضات، التي لم تتعامل معها إسرائيل بجدّية يوماً، بل استخدمتها غطاءً لمواصلة الإبادة والتهجير. لذلك، يفترض بعد العدوان أن يغلق باب التفاوض، ويفتح باب الضغوط والعقوبات والمقاطعة والمساءلة، لأن من أمن العقاب يكرّر العدوان، إلا إذا قرّرت الإدارة الأميركية التراجع خطوة إلى الوراء، وقامت بالضغط اللازم على حكومة نتنياهو لوقف حرب الإبادة لاحتواء ردات الفعل العربية والدولية.
وبذلك، تقف المنطقة اليوم أمام مقاربتين: مقاربة القوة: التي ترى أن ما لا تحسمه القوة يحسمه مزيدٌ من القوة، عبر التركيز على الأمن والاقتصاد، مع تجاهل السياسة والحقوق الفلسطينية. وهي مقاربة تمثلها حكومة نتنياهو وإدارة ترامب، وتفتح الباب واسعاً أمام منطق "شريعة الغاب" حيث الأقوى يأكل الضعيف.
ما جرى في الدوحة لا يمكن اعتباره امتداداً تقليدياً للسياسات الإسرائيلية، بل هو نقلة نوعية
المقاربة السياسية: التي تستند إلى ما تبقى من القانون الدولي والشرعية الدولية، وتقوم على بلورة تحالف عالمي واسع لتحقيق ما يسمى حل الدولتين، وإقامة نظام إقليمي يقوم على التعاون المتبادل بدل الهيمنة الانفرادية لإسرائيل. ورغم أن هذه المقاربة تحظى بدعم غالبية الدول، إلا أنها ما زالت تفتقر إلى أدوات التنفيذ القادرة على ترجمتها، وهنا الوردة فلنرقص هنا، فإذا توفّرت الإرادة لتنفيذ هذه المقاربة بالتركيز على إنهاء الاحتلال لتجسيد دولة فلسطين سيكون الحلّ السياسي ممكناً. أما الاكتفاء بالحديث عن الأفق السياسي فسيؤدّي إلى أن ينتهي الأمر بأن العالم كله يؤيد قيام الدولة الفلسطينية بينما دفنتها إسرائيل.
تؤكّد هذه التطورات أن المنطقة أمام لحظة تاريخية فارقة: إما أن تدرك الدول العربية خطورة المرحلة وتبني نظاماً عربياً قادراً على الدفاع عن نفسه عبر مشروع وحدوي قابل للتنفيذ، وتنويع التحالفات، ومصادر السلاح، وتحرير القرار من الارتهان لواشنطن، أو أن تسقط دولة بعد أخرى ضحية التقاسم والتقسيم والهيمنة الإسرائيلية تحت شعار "إسرائيل الكبرى".
ما العمل؟ الطريق واضح إذا توفرت الإرادة: يمكن البدء بوقف العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل أو تجميدها. قطع التعاون الاقتصادي والأمني والعسكري والتكنولوجي. العودة إلى سياسة المقاطعة العربية. الحظر الجوي والبحري والبرّي. تفعيل المساءلة القانونية عبر الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات ومحكمة العدل الدولية. المطالبة بتجميد عضوية إسرائيل في الجمعية العامة (إجراء لا يخضع للفيتو الأميركي). الدعوة إلى تشكيل قوة أممية لحماية الفلسطينيين بموجب بند "الاتحاد من أجل السلام" ولأن إسرائيل باتت خطراً كبيراً على الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم. استخدام أوراق الضغط العربية (النفط والاستثمار وشراء البضائع والسلاح) في العلاقات مع واشنطن وحلفائها.