الاستعمار يغطي على همجية ووحشية إسرائيل بنصوص تلموديه

اعتمدت الحركة الصهيونية على توظيف نصوص تلموديه لم تثبت صحتها في تبرير عدوانها على الأغيار، وخاصة الشعب الفلسطيني، فبالرغم من أن فلاديمير جابوتنسكي كان علمانيًا، إلا أنه عندما كتب مقاله الشهير "السور الحديدي" في نوفمبر عام 1923، ونُشر لأول مرة في صحيفة روسية صهيونية تُدعى (الفجر)، كان محكومًا بالنظرة الاستعلائية الواردة في بعض النصوص التلمودية، والتي ترى في الأغيار عبيدًا لليهود. فسور جابوتنسكي الحديدي وسور نتنياهو الحديدي في طولكرم وجنين وطوباس لا يختلفان في شيء سوى الزمان.
العرب الفلسطينيون، حسب جابوتنسكي، لن يقبلوا طواعية المشروع الصهيوني؛ لأنه يتضمن انتزاع الأرض التي يعتبرونها وطنهم. لذلك، دعا إلى بناء "سور حديدي" من القوة العسكرية، أي فرض واقع قوي لا يمكن كسره، حتى يُجبر العرب على الاعتراف بالأمر الواقع. وهذا ما يحاول نتنياهو تنفيذه حاليًا في شمال الضفة الغربية (طولكرم، جنين، طوباس، والخليل)، ولاحقًا في كل مدن الضفة، تنفيذًا لمشروع موردخاي كيدار (الإمارات الفلسطينية المتحدة)، المرتبط برؤية عقائدية في "يهودا والسامرة".
أما في قطاع غزة، فالوضع مختلف تمامًا، إذ إن الهدف أمني–اقتصادي–تجسسي. فبالرغم من أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، فإن الحكومات الإسرائيلية، وعلى مدى عقود، سعت لتهجير سكان القطاع، بدءًا من مخطط "نافو" وصولًا إلى "خطة الجنرالات". وفي أعقاب السابع من أكتوبر، نشهد مواجهة لا تتكرر كثيرًا في التاريخ، حيث يشتبك القديم مع الحديث، ويواجه الضعيف—بالمقاييس العسكرية—من يمتلك أحدث وسائل القتل والتدمير. هكذا تبدو صورة المواجهة بين ما سُمّي بـ “عربات جدعون"، وبين رمزين عميقين في الوعي الفلسطيني: حجارة داوود وعصا موسى. إنها ليست مجرد معركة بين جيش ودفاع، بل صراع بين الإيمان بالتاريخ والمعجزة، وبين آلة الحرب والتقنية الباردة.
ليست تسمية العملية الإسرائيلية بـ"عربات جدعون" مصادفة؛ فجدعون في النص التلمودي قائد عسكري استخدم الحيلة لهزيمة جيش يفوقه عددًا، ويُستحضر كثيرًا في الوجدان الصهيوني كرمز لانتصار القلة على الكثرة بإرادة إلهية. لكن المفارقة أن إسرائيل، في هذه العملية، عكست القصة: جيش يمتلك طائرات F-35، ودبابات ميركافا، وأجهزة استخبارات فائقة، يهاجم قطاعًا محاصرًا ومجردًا من الإمكانات، مكتظًا بالكتل البشرية، ومحاصرًا برًا وبحرًا وجوًا.
لقد تحولت "عربات جدعون" إلى رمز للعدوان العسكري المفرط، لا إلى المعجزة التلمودية. فهي تمثل حربًا تقوم على التفوق التقني والدمار المنهجي، مع استغلال للنصوص الدينية لتبرير الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. أما حجارة داوود، فهي تعبير عن المقاومة بالفكرة قبل الأداة، حيث يقف الفلسطيني في وجه الاحتلال والعدوان بجسد أعزل وهزيل، نتيجة الحصار والتجويع. ومن منظور مقارن ديني، يقف كما وقف داوود أمام جالوت؛ أطفال يرشقون الحجارة على جرافات الاحتلال، مقاومون يقتنصون الفرص النادرة لمواجهة جيش عُرف بأنه لا يُقهر، بأدوات متواضعة، حيث يُعوَّض الفارق المادي بإيمان عميق بعدالة القضية. فالحجر ليس مجرد سلاح، بل فعل رمزي، يحمل في طياته بطولة داوود، الذي لم يكتف بعدم الخوف من جالوت، بل انتصر عليه.
في النصوص الدينية، سواء كانت حقائق أم أساطير، هناك رسالة واضحة: الحق لا يُقاس بعدد الدبابات ولا الصواريخ، بل بثبات الإنسان على أرضه. فالحجر هو رفض، هو ثورة، هو تجلٍ للإرادة في مواجهة الجبروت. الفلسطيني، في كل فلسطين، يسهم—بطرق متعددة—وفي كثير من الأحيان من خلال ما يشبه المعجزات، في فضح الرواية الصهيونية، وخاصة تلك التي توظف نصوصًا تلموديه لتبرير الجرائم والإبادة الجماعية التي تمارسها الحركة الصهيونية عبر أداتها: عصابة حكام الكيان.
أما عصا موسى، فهي تجلٍ للمعجزة في لحظة الانهيار. فهي تظهر رمزيًا عندما يُغلق الأفق تمامًا، ولا يبدو أن هناك مخرجًا. فعندما تُغلق المعابر، وتُدك البيوت، وتُقطع الكهرباء والوقود، وتُمنع الأغذية والأدوية، وتُدمر المراكز الصحية، ويخيّم الموت... تأتي لحظة الانفراج، فتخرج غزة من الحصار كما خرج بنو إسرائيل من البحر. وهنا، تمثل عصا موسى مفاجأة: صمودًا أسطوريًا غير متوقع، وخطابًا فلسطينيًا معمدًا بدماء الأطفال، يقلب الرأي العام العالمي. عصا موسى، في هذا السياق، ليست مجرد أداة مادية تحولت إلى أفعى أو شقت البحر، بل هي إيمان شعب بأن مواجهة العدوان لا تكون بالسلاح فقط، بل بيقين لا ينكسر في حقه بوطنه، وبحتمية النصر.
فلسطين، كل فلسطين، ستنتصر بإيمانها الراسخ على الاستعمار وكل مشاريعه، وفي مقدمتها كيان لقيط سينهار عاجلًا إن شاء الله، مما سيمكّن الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة، لتصبح عامل استقرار ليس في المنطقة فحسب، بل في العالم بأسره.