خطاب الأزمة وأزمة الخطاب

(هو خطاب أزمة لأنه خطاب تعايش مع المذبحة،وهو خطاب تعايش مع الهزيمة لأنه خطاب أزمة)
***
يظهر التلفيق في خطابنا الرسمي،عادةً،عندما يُساوي بين الأخطاء،ويُمارِس عمليةَ إيهامٍ حقيقيةً بحيث تنتفي الفروق بين الأفعال وبين الرجال وبين الأفكار، وعندما تتمّ التسويّات على قاعدة عمومية غامضة،وحين تغيب المحاسبة والمكاشفة،وحين تُحَلُّ المشكلات بطريقةٍ عشائريةٍ يستوي فيها الخطأ والصواب إلى درجة أن يتساوى الدم بفنجان القهوة،وهو أمرٌ يتكرر في السياسة،حيث تتحوّل الأوطان إلى عقارات وليست رمزَ كرامةٍ وعزّة. الخطاب التوفيقي هو خطابٌ سطحي وبائسٌ في الوقت ذاته،لأنه لا يبحث عن الإقناع بقدر رغبته في السلامة والتسويات التي لا تَصِحّ،هذا الخطاب لا يبحث عن الشرعية بقدر بحْثِه عن الإجماع المصطنع مهما كان الثمن.
إن الخطاب المُتعايِش والمتكيّف مع الهزيمة مستعيناً في ذلك بالتوفيق والتلفيق وصناعة الموافقة،هو خطابُ أزمةٍ بامتياز،هي أزمة التعامل مع الواقع،أزمة السؤال والتحدّي،أزمة الهويّة،أزمة الشرعيّة،وأزمة التنمية.هو خطاب أزمةٍ لأنه خطاب تعايُشٍ مع الهزيمة،وهو خطاب تعايُشٍ مع الهزيمة لأنه خطاب أزمة،ولا يمكن تجاوز كل ذلك إلا بتجاوز الأزمة عن طريق رفض الهزيمة.إن صُنْعَ فضاء للمجابهة والمقاومة المناسبة لواقعها،والاستعداد له والتهيؤ لأسبابه وإنضاج ظروفه وشروطه هي عملية طويلة ومضنيَة ومجهِدَة،ولأنها كذلك،فإنها كفيلةٌ بأن تفرز الخبيث من الطيب،الحقيقي من الزائف،عملية المقاومة بحَدّ ذاتِها عمليةٌ تُنَظِّف وتُطَهِّر وتُرَمِّم،لأنها عملية لا تلفيقية ولا توفيقية،فالمقاومة انحيازٌ حقيقيٌّ باتجاه مكان القوة الأصلية ومصادر الطاقة التي عادةً ما تغيب في خطاب الأزمة أو تُشَوَّه.وخطاب المقاومة واضحٌ وبسيطٌ،حتى شعاراته بسيطة وواضحة ومتواضعة،لا تقفز على الواقع ولكنها تحلُم بتغييره،ولا تُزَوِّر الواقع ولكنها تطلب الانقلاب عليه.حتى أن لغتها،هي لغةٌ دقيقةٌ لأنها تعرف فداحة الأثمان التي دُفِعَت من أجل الخلاص،وهي لغةٌ متواضعةٌ لأنها تعرف معنى الوحدة وصعوبة العمل الذي تمَّ إنجازُهُ.وعلى عكس لغة التلفيق والتوفيق،التي فيها من الادّعاء ما فيها،فإن لغة المجابهة مختصرةٌ وتذهب مباشرةً إلى مقاصدها وتُسَمّي الأشياء بأسمائها.وهنا أعني بالمقاومة الأخذ بنظرية العوامل المتعددة المناسبة للظرف،والقادرة على إحداث الاشتباك السياسي المطلوب..يعني؛لا أقصد الكفاح المسلّح والصعود للجبال،لكن لدينا أشكالا كثيرة نستطيعها..!
وما يُمَيّز الخطاب الرسمي أنه خطابٌ ينحو إلى التكيُّف والتعايُش مع الهزائم والاحتلال والمذابح المدوّية،لأنَّه خطابٌ يمتلك من السعة والمرونة والاحتيال بحيث يستطيع أن يقلب الحقائق ويُزَوِّر الوقائع،ما يدفع إلى القول إن الخطاب المتكيّف عادةً هو خطابٌ معكوس ومخادعٌ،لا يقرأ الواقع من جهةٍ ولا يفسِّرُهُ ولا يحلّلُهُ من جهةٍ أخرى،لذا فإن الخطاب المتكيّف عادةً ما يكون تلفيقيّاً وتوفيقيّاً بطريقةٍ مثيرةٍ للشفقة أو الضحك أو البكاء أو كل هذا الأمور مجتَمِعَةً.ويظهر التلفيق في هذا الخطاب من خلال تقديم نماذج متعددة المرجعيات ومتناقضة الأيديولوجيات،إلى درجة أن هذا الخطاب يحتمل كل شيءٍ في ذات الوقت.ومن العجب أيضاً أن يقوم على تقديمها رجُلُ الفكر والدّين والإعلام والسياسة،لتشكيل فضاءٍ سياسيٍّ ثقافيٍّ ناظمٍ يكتسب شرعيةً بفعل قوة الروافع والمضخّات الرسمية،ومَن يتطوّع معها إغواءً وإغراءً ورغبةً منها في الاندماج والكسب.وإذا كان التلفيق صفةَ الخطاب فإنه ينسحبُ على كل الأمور الأخرى؛كالتعليم،والتخطيط،وحتى العلاقة مع الجماهير، حيث تغيب الرؤية النهائية للتعامل مع الجمهور،فالديمقراطية ادّعاءٌ برّاقٌ يُسْتَخْدَم حسب مقاييس ومعايير تُكَرِّس القمع،أو يُعاد إنتاجُها بطريقةٍ غاية في الخداع والاحتيال،بحيث تتحوّل الديمقراطية -كمفهومٍ غربيٍّ له عراقةٌ وتقاليد- إلى سلوكٍ سياسيٍّ مخادعٍ يتمّ من خلاله تثبيت مراكز القوى إيّاها،وهكذا يتحوّل مفهوم الديمقراطية إلى سيفٍ يذبَحُ حامِلَهُ.الديمقراطية بالذات هي الوصفة الناجعة من أجل التفتيت والتفكيك بدلاً من أن تكون مفهوماً وأداةً للاستقرار السياسي والاجتماعي،ذلك أن تلفيق المفهوم يؤدّي إلى تلفيق التطبيق وبالتالي تلفيق النتائج.
وخطابنا الرسمي الذي يتكيّف مع الهزيمة،يستَبْعِدُ كلّياً خيار التحرير!أليس هذا غريباً؟أليس عدم الكلام عن التحرير تعايُشاً مع الهزيمة وتكيُّفاً معها وقبولاً بها؟!عندما نتحدّث بلغةٍ لا نؤمن بها ولا نصدّقها،تتحوّل هذه اللغة إلى خيوطٍ مرِنَةٍ ولكنها غليظة وطويلة،حتى تكفي لتأليف حبكاتٍ ينقُصُها الصدق والصراحة والجرأة.وعندما لا نتحدّث عن وقف المذبحة وتحرير الأسرى وخلاص البلاد من الاحتلال،وهي القضايا التي تؤلّف جوهر إيماننا،فإننا نقوم بخيانةٍ ما أو ما لَهُ طعم الخيانة،وعندما نقوم بتجميل الهزيمة أو التعايُش معها،أو تحميل أنفسنا وزْر المجازر ونعفي القاتل الحقيقي..فإننا نخون حتى لغتنا.يجب الاعتراف بأننا مهزومون،وهو اعترافٌ لا يدعو إلى جَلْدِ الذات بقدر استنهاضِها،ولا يدعو إلى الإحباط بقدر الدعوة إلى فتح العينين على آخرهما لقراءة الواقع كما هو لا كما نريد أو كما نحلم.إن الاعتراف بالهزيمة خطوةٌ أولى من خطوات الاعتراف بالواقع،فأوضاعُنا ليست بخير،ومجتمعُنا ليست بخير،ومؤسساتنا ليست بخير،وثرواتُنا ليست بخير.المشكلة هنا أن هذا الكلام يكاد يكون مكروراً ومبتَذَلاً،ويعرِفُهُ القاصي والداني..فالقدس مثلاً تُهَوَّد بوتيرةٍ سريعةٍ إلى درجةٍ قد تتحوّل فيها الأوضاع إلى الحال الذي تعيشُهُ سبته أو الإسكندرون،كأننا نريد فراديس مفقودةً أخرى،أوأندلساً جديدة،لأن العادة والتعوّد تطبيعٌ من نوعٍ آخر.
التطبيع هو مطلَبُ القويّ وليس مطلب الضعيف.ولهذا عادةً ما يحشر الضعيف في زاوية الدفاع عن النفس وشرح الدوافع والأسباب،وبهذا يتحوّل الضعيف إلى ضحيةٍ لا يُصَدِّقُها أحدٌ ولا يحتَرِمُها أحدٌ.خطاب الضحيّة الضعيفة خطابُ أزمةٍ حقيقيةٍ فهو لا يستطيع أن يُقْنِعَ حتى نفسه،ولهذا كان التطبيع مطلبُ القويّ لأن هذا المطلب يتضمَّنُ -ضمن أشياء أخرى- قبولَ شرْطِ القويّ ومطالبه. والتطبيع هنا قبولٌ لرواية الآخر كما قيلَت،فإن رواية الآخر عن نفسه أرفع من أن تكون مطلب القوي هنا للضعيف،بل،وببساطة،فإن التطبيع المطلوب هو عدم الثورة وعدم الاحتجاج والقبول بالتحوّل إلى مجرد كائن حيّ،كل فضيلته أنَّهُ يستهلك الطعام ويُخْرِجُه.
خطاب الأزمة يقْبَلُ التطبيع ويرفضه،ذلك أن خطاب الأزمة يتجاور فيه كلُّ شيءٍ مع كل شيءٍ آخر،وهذا من أشد الأمراض وأسوأها.
إن خطابنا اليوم،وارتباط معظَمِه بالمؤسسة الرسمية العربية،يجعل منه ظِلّاً باهتاً غير أصيلٍ أو مقنعٍ،ولهذا يدخل في معارك متوهَّمَة وسخيفة وشعبوية،ويساجل على أراضٍ بعيدةٍ وتختلط عليه وجوه الأعداء والأصدقاء.
إن هذا الخطاب الذي تقع عليه مسؤولية المقاومة والوحدة الوطنية والتحرير، والذي لا يستطيع الفكاك من ازدواجية دوره الاجتماعي ودوره التحرُّري،يجد نفسه،كلما تقدَّمَ الزمن،يبتعد أكثر فأكثر عن الانشغال بالقضية المركزية الأمّ، بسبب هزائم النُّخَب السياسية والاقتصادية،وانجرارها وراء مخططاتٍ أكبر منها،أو انسجامها مع الاشتراطات الاقليمية المريبة.
مرّةً أخرى تُواجِهُنا الهزيمة التي تدعونا إلى الانغماس في العبث واللاجدوى،ذلك أن المهزوم أو المنتكس يقلّد فلا يُجيد ولا يصيب ولا يصل، والمنكوب المهزوم يفقد أهدافه،ولا يحترم حتى ذكرياته ولا يقدّسها،والمهزوم يذهب للاحتماء بالعشيرة والفصيل والجهوية،ويهين رموزه،ويقلّد قاتله ويرهبه حدّ الخشية،والمهزوم يستعمل اللغة النهائية فيؤلّه نفسه ويشيطن خصمه،إلى درجة لا يفتح مساحة لقبوله أو الحوار معه..ولكننا في فلسطين،ذلك الشعب الصامد المرابط،لا يعيش ذكرياته فقط،وإنما عليه أن يواصل صُنْعَ تاريخه حتى يتجلّى كاملاً على أرضه،أي أن يعيشَ تاريخَهُ ويكتُبَهُ في آنٍ واحدٍ.