للسلطة والقطاع الخاص ... هل ستؤكلون يوم أُكلت باديكو؟

2025-04-09 18:25:07

منذ انطلاق حرب الإبادة على شعبنا الغزي قبل عام ونصف، تقوم الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة وربيبتها أمريكا بجهود جبارة لمحاولة تصفية الوجود الإنساني الغزي على أرضه، بالقتل والتهجير المتكرر والتجويع وتدمير كل مقومات الحياة الإنسانية، وعلى رأسها البنية التحتية في كافة القطاعات تقريبا، حتى تصبح غزة غير قابلة للحياة عملياً، وتؤدي، "كما يعتقدون"، الى النزوح الجماعي والهجرة "الطوعية" منها.

 

توجت إسرائيل وأدواتها هذه المساعي مؤخراً، بمحاولة القضاء النهائي على إمكانية تعافي الإقتصاد الفلسطيني الغزي مستقبلا باستثمارات وطنية ووافدة، عبر محاولة تسخير واستغلال قانون مكافحة الإرهاب الأمريكي (Anti-Terrorism Act) لابتزاز ومساءلة وملاحقة مجموعة باديكو القابضة (المستثمر الأكبر في غزة) ورئيس مجلس إدارتها السيد بشار المصري، بتحريك قضية ضد المجموعة وبشار المصري شخصيا، بافتراء دعم وتمويل والعلم باستعدادات حماس لشن "طوفان الأقصى" في 7 أوكتوبر 2023، وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة كما يدعون، عبر الإستثمارات المختلفة للمجموعة في غزة، وعلى رأسها المنطقة الصناعية وفندق المشتل ومنتجع بلو بيتش.

 

طبعا، فإنه من السذاجة حتى التفكير باحتمال صحة أي ذرة من هذه الإدعاءات، خاصة وأن جميع هذه الإستثمارات قائمة منذ عام 1996، أي قبل استيلاء حماس على غزة عام 2007، وقبل سنوات طويلة من تولي بشار المصري أي مسؤولية عليها.  وبظني أن هذه القضية ليست إلا البداية، حيث لا أستبعد أن تعمل الأدوات الصهيونية على ملاحقة القطاع الخاص الفلسطيني بنفس الإدعاءات، خاصة الشركات والمصانع التي توسعت من الضفة الغربية باتجاه غزة منذ قيام السلطة عام 1994، والتهمة جاهزة كما يبدو.

 

بمراجعة ما رشح من أسماء على قائمة المدعين الطويلة وأسماء مكاتب المحاماة التي تتولى القضية، يمكن القول بأن معظمهم يمتهن الإستثمار بالقانون المذكور، وابتزاز الدول والجماعات غير المنضوية تماما تحت مظلة الولايات المتحدة.  ويقود هذه الجهود ضد مجموعة باديكو وبشار المصري المحامي غاري م. أوسن (Gary M. Osen) مالك ورئيس مكتب المحاماة (Osen LLC) المتفرغ مع عدد آخر من المكاتب الأقل شأناً، للتواصل مع أشخاص وجهات لتمثيلها في قضايا تتعلق بادعاء "تمويل الإرهاب" من قبل شخصيات مهمة وشركات ومؤسسات في الشرق الأوسط، ومن أشهرها القضايا ضد منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، والبنك العربي وبنك فلسطين وبنك القاهرة-عمان وبنك الإستثمار الفلسطيني، وسابقا عليها جميعا صندوق الإستثمار الفلسطيني، إضافة الى شركة UBS بداعي تقديم خدمات مالية لإيران.  وتراهن هذه المكاتب على تحصيل عمولات هائلة تقدر بعشرات أو مئات ملايين الدولارات عن أي قضية يربحونها.  علما بأن بعضها قد تم رده مثل بنك الإستثمار و UBS.

 

في الحالة التي نحن بصددها، فإن المدعين جلهم ممن فقدوا أشخاصاً خلال أحداث 7 أوكتوبر 2023 وما بعدها، والذين انتهزوا الظروف السياسية غير المواتية للعلاقة بين السلطة والولايات المتحدة، واصطفاف الأخيرة الى جانب إسرائيل في عدوانها.  وعلى الرغم من علمهم أن الطرف المتسبب قد يكون "حماس"، وهو الأولى برفع القضية ضده، إلا أن الإدعاء على أطراف أخرى تستثمر في غزة ولديها الموارد المالية، قد يكون مُجدٍ أكثر وقابل "للتكييش" في ظل الإنحياز الأمريكي، ويحقق مآرب سياسية. 

 

السؤال المهم هنا، هل لإسرائيل دور في تحريك هذه القضية وغيرها؟. برأيي أن الإجابة "نعم" أكيدة، لأن هذه القضية وغيرها تخدم الأهداف "الصهيو-أمريكية" بشكل مباشر وعظيم النفع.

 

أولا: تمثل هذه القضية رسالة مباشرة للمستثمرين الفلسطنيين والعرب ومناصريهم بعدم الدخول في "مستنقع غزة" والتعرض لمساءلة سياسية ومالية مكلفة، كما قد يحصل مع مجموعة باديكو وبشار المصري (لا سمح الله).

 

ثانيا: تخدم هذه القضية فكرة إفراغ غزة وتهجير سكانها، حيث تقوم إسرائيل بكل ما تستطيعه لتحويلها الى مكان تصعب أو تستحيل الحياة فيه، فما بالك بما يسببه عدم استثمار الخاص في إعادة البنية التحتية ومختلف قطاعات الإقتصاد من آثار؟.

 

ثالثاً: للعدوان "الصهيو-أمريكي" على غزة، بالوحشية التي نشهدها، أطماع حقيقية فيها، فارغة من أصحابها، نظراً لتربعها على ثروات مهمة تتمثل في مخزون هائل من الغاز الطبيعي والتربة الخصبة والشاطئ الساحر (لتحقيق تطلعات جاريد كوشنير بتحويلها الى ريفيرا الشرق الأوسط)، وتجليس الحدود البرية لإسرائيل وبلع مياهها الإقتصادية الثرية.

 

رابعاً: ليس من قبيل الصدفة أن ينضم لهذه القضية أشخاص من ذوي المناصب الرفيعة في إسرائيل مثل سفيرها لدى الولايات المتحدة "يحيئيل ليتر"، ووزير ليكودي سابق. 

 

خامساً: من المرجح أن تكون إسرائيل قد استشعرت الخطر من علاقة الصداقة بين السيد بشار المصري ورجل الأعمال الأمريكي اليهودي "آدم بوهلر" المقرب من "ترمب"، الذي عينه سفيرا وكلفه بمهمة مبعوث الولايات المتحدة لشؤون الرهائن (قبل أن يعفيه من المهمة مؤخرا ويبقيه بمنصبه كسفير)، حيث من الممكن والمرجح أن تقود هذه العلاقة الى استثمار الجانب الفلسطيني فيها للوصول الى علاقة ما مع إدارة "ترمب" التي تستعديها، طبعاً على افتراض فطنة النظام السياسي الفلسطيني.

 

يعتبر الكثير من الإسرائيليين ومكاتب المحامات أن رفع الدعاوي للمطالبة بالتعويضات ضد كل ما هو فلسطيني (خاصة السلطة الفلسطينية و م.ت.ف.)، بمثابة استثمار مضمون ومربح وذو جدوى مرتفعة، خاصة إن كانت القضايا مرفوعة في إسرائيل، لسهولة الحصول على التعويضات بسرعة من أموال المقاصة، كما هو حاصل منذ فترة طويلة، وأحدثها رفع أكثر من 500 إسرائيلي دعوى قضائية مطلع الشهر الماضي أمام المحكمة المركزية في القدس ضد السلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، ووزير شؤون الأسرى السابق قدورة فارس، حيث يتهمونهم بالمسؤولية المباشرة وغير المباشرة عن هجمات السابع من أكتوبر. وستشهد الأيام القادمة سيل من هذه القضايا لإمكانية التربح فقط.

 

يخطئ من يظن أن هذه القضية محدودة وتتعلق بمجموعة باديكو وبشار المصري فقط، حيث أن هذه القضية هي البداية على ما أعتقد في مشروع استثمار مكاتب المحاماة والطامعين اليهود والإسرائيلين لتحقيق الربح المضمون عبر دعاوي التعويض ضد القطاع الخاص الفلسطيني في فلسطين وخارجها، ممن استثمروا في غزة، وهو بالنسبة لهم كسب مغر وسريع.  في ذات الوقت، سيمثل التقاعس في المواجهة ضربة قاصمة لاقتصادنا الوطني، وبداية تجفيف لموارده وردع حقيقي للمستثمرين الذين يرغبون بالإستثمار في وطنهم.  إنني أعتبر ذلك تطوراً خطيرا يستدعي العمل الجماعي الفوري من السلطة والقطاع الخاص والقيادة الفلسطينية لتقويضه، وفي اضعف الإيمان محاصرة امتداده وأثره.

 

إن ما تعيشه غزة اليوم من حالة الدمار الشامل بدون تمييز، والقتل بداعي الإبادة ليس أكثر، ومنع أي رابط بيننها وبين الضفة، وتقويض منظومة شبكة الأمان الإنساني، تمثل بمجملها مرحلة مؤكدة من مراحل تقويض إمكانيات الحياة في غزة، تمهيدا لابتلاعها (تذكروا مقولة أرض بلا شعب).  وبظني، تأت الهجمة على مجموعة بادكو وبشار المصري كمقدمة لمحاكمة ومساءلة القطاع الخاص، لمجرد قيامه بالإستثمار في بلده. 

 

يخطئ القطاع الخاص الفلسطيني إن اعتقد بأن هذه المسألة محصورة ولن تطالهم حاضرا و/أو مستقبلاً، وبرأيي أن هذا العدوان الإقتصادي أكبر من مجموعة باديكو وبشار المصري، ويعكس نهجا إسرائيليا إستراتيجيا لترسيخ نظريتها بأن غزة اليوم غير قابلة للحياة ولن تكون، وقد تسعى عبر أدواتها في سبيل ذلك الى تحريك عشرات إن لم يكن مئات القضايا المماثلة لقضية باديكو، لتجفيف أي موارد فلسطينية أو عربية أو إسلامية يمكن أن يخصصها مستثمرون يرون في إعادة إعمار غزة فرصة إستثمارية ممتازة، إضافة للمسألة الوطنية، خاصة في حال توفرت الضمانات الدولية بعدم قيام إسرائيل بعدوان جديد مستقبلا.

 

إن الزج بالقطاع الخاص واستهدافه في حرب التصفية التي تخوضها الجبهة "الصهيو-أمريكية"، خطير جدا على مستقبل القطاع الخاص واستثماراته الوطنية، وعليه أن يستشعر الخطر الشديد على مستقبل استثماراته في الوطن وخارجه، وليس أمامه مفر إلا التوحد والإصطفاف مع بادكو في مواجهة الإعتداء عليها، والمبادرة بتحرك عاجل للتعبير محليا وإقليميا وعالميا عن رفضه لهذا التحريض والإبتزاز وزج المستثمرين ضمن بنك أهداف العدوان.  وأرى أن السلطة ملزمة باتخاذ كل ما يلزم لحماية القطاع الخاص والمساهمة في معركة باديكو.

 

وإن لم يفعل القطاع الخاص ذلك، يا خوفي أن تنطبق عليهم مقولة "أُكلت يوم أُكلت باديكو".