غزة.. عائلة نازحة تتخذ من المقبرة مأوى لها

راية - أماني شحادة / غزة
يركض الطفل عزمي، ذو العشر سنوات، ملوحًا بعظام بشرية عثر عليها في مكان إقامته، معتقدًا أنها مجرد لعبة قد تخفف من قسوة حياته التي حرمته طفولته.
تشاهده جدته، أم محمد ملحم، فتصيح مذعورة مستدعية زوجها، الذي يهرع ليرى ما كانت تخشاه قبل أن تضطر للعيش في هذا المكان الموحش.
تقيم أم محمد وعائلتها النازحة، المكونة من سبعة أفراد، إلى جانب حفيدها عزمي، في مقبرة ابن مروان بحي الشجاعية شرق مدينة غزة. فابنتها فقدت منزلها وزوجها، ولم تجد العائلة مأوى سوى هذا المكان الذي يضم رفات الأموات والشهداء، بعد أن دمر الاحتلال جزءًا كبيرًا منه خلال العدوان، مسببًا تناثر العظام واختلاطها دون القدرة على تحديد هوية أصحابها.
من النزوح إلى المقبرة
تقول أم محمد لشبكة "رايــة" الإعلامية: "عند عودتنا من النزوح جنوب قطاع غزة، لم نجد خيمة تأوينا بسبب الاكتظاظ، فلم يكن أمامنا خيار سوى اللجوء إلى المقبرة، حيث الموتى والعظام المتناثرة".
بملامح يكسوها الحزن وفقدان الأمان، تروي قصتها وهي تجلس فوق أحد القبور أمام خيمتها المهترئة، المصنوعة من أقمشة بالية وهياكل معدنية بسيطة. تضيف: "بعد يومين من بدء العدوان في السابع من أكتوبر 2023، قررنا النزوح إلى الجنوب على أمل العودة سريعًا، لكن النزوح طال لأكثر من عام. وعندما أُعلن عن هدنة، عدنا لنجد منزلنا وقد تحول إلى ركام، كحال معظم منازل غزة".
زاد الوضع سوءًا مع تدمير الاحتلال لآلاف المنازل، ما جعل العثور على مأوى مهمة شبه مستحيلة. ورغم حق الإنسان في السكن اللائق، كما نصت المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإن العائلة لم تجد بيتًا للإيجار بسبب الأسعار المرتفعة، إذ تقول أم محمد: "لا نملك ثمن الطعام، فكيف ندفع أكثر من 1000 شيقل شهريًا للإيجار، ونحن بلا مصدر دخل؟".
قرار العيش بين القبور
وسط هذا التيه، وقف زوج أم محمد حائرًا قبل أن يقرر، مكرهًا، السكن في المقبرة. جمع ابنهما قطع القماش والهياكل المعدنية من بين الأنقاض، ليصنع منها خيمة تستر العائلة، بدلًا من النوم تحت السماء المفتوحة بجوار العظام المتناثرة.
تصف أم محمد الليلة الأولى في المقبرة: "كانت مرعبة، ملؤها الخوف والتوتر. لم نستطع النوم وسط الظلام الدامس، فقد عشنا شعورًا لم نختبره من قبل". وتتابع: "نخشى الاستيقاظ ليلًا للسحور، ونتلمس الطريق بصعوبة حتى نصل إلى الطعام. لا نستخدم الشموع خوفًا من احتراق الخيمة القابلة للاشتعال".
وتضيف: "ابني وزوج ابنتي شهيدان، وأخشى على حفيدي اليتيم من العيش بين العظام والأماكن المظلمة. أبقي عيني عليه طوال الوقت، حتى لا يعبث برفات الموتى التي نجدها باستمرار، أو يتعرض للحشرات السامة".
مأساة لا تنتهي
مع غياب البيئة الصالحة للعيش، تواجه العائلة مخاطر يومية، ليس أقلها الثعابين والحشرات التي تظهر باستمرار. وتشير أم محمد إلى ثعبان طويل يتدلى بجوار الخيمة، مؤكدة أنهم يقتلونها كلما ظهرت لتقليل خطرها.
لم يقف رب الأسرة مكتوف الأيدي، فقام بحفر حفرة أمام خيمتهم لدفن العظام البشرية المتناثرة، التزامًا بالواجب الأخلاقي. أما أبناؤها، فاضطروا لبيع الخبز بسعر أعلى قليلًا لتأمين قوت يومهم، إذ لا فرص عمل في ظل الحرب.
وتشكو أم محمد قائلة: "ننقل المياه من مسافات بعيدة، ولا نحصل على أي مساعدات، لا طعام ولا شراب، ولا أحد يهتم بنا. الغلاء يحرمنا حتى من شراء الخضار".
إلى جانب الفقر والمخاطر، تعاني العائلة من ضغط نفسي كبير، إذ تتكرر المشاحنات والمشاكل نتيجة الضيق وعدم القدرة على التعايش مع الحياة وسط القبور.
مطلب بسيط: مأوى آمن
تطالب عائلة ملحم بتوفير مأوى مناسب، ولو خيمة جيدة، بعيدًا عن هذا المكان المليء بالرعب، حيث يمكنهم العيش بكرامة رغم كل ما حل بالمدينة. فالحياة في مقبرة، كما تقول أم محمد، "لعنة نخافها أكثر من الحرب نفسها".