بعد أوسلو ، إسرائيل تُخطط لمرحلة أستعمارية جديدة . "قراءة في ورقة معهد الأمن القومي الإسرائيلي حول إعادة بناء النظام الفلسطيني ".
الكاتب: مروان إميل طوباسي
تُشكل الورقة الصادرة عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي حول «إعادة بناء النظام الفلسطيني» مدخلاً كاشفا لطبيعة المرحلة السياسية التي يُراد فرضها على شعبنا الفلسطيني بعد جرائم حرب الإبادة الجماعية على غزة . فهي ليست تصوراً أكاديمياً أو مقترحاً تقنياً لإعادة الإعمار ، بل وثيقة سياسية–أمنية تؤسس لمرحلة إستعمارية جديدة ، تُمثل الأمتداد الأكثر تطوراً لنموذج أتفاق أوسلو كنظام أستعماري كما أرادته إسرائيل أن يكون .
إن ورقة معهد الأمن القومي الإسرائيلي لا تعرض طريقاً إلى الدولة الفلسطينية ذات السيادة والمستقلة ، بل خارطة طريق لتصفية القضية الوطنية بصيغة جديدة تتمثل في أستعمار بلا أحتلال عسكري مباشر وكلفة عالية ، وهيمنة بلا مسؤولية سياسية ، و"سلام" بلا عدالة . إنها محاولة إدارة منظمة لنتائج القوة ، بعد أن فُرضت الوقائع التي نفذتها دولة الأحتلال على الأرض ، والطلب منا نحن الفلسطينين التكيف معها لا مقاومتها ، بل أعلان أستسلامنا وهزيمتنا .
تنطلق تلك الورقة من فرضية تعتبر أن القضية الفلسطينية لا تتعلق بأحتلال أو بأستعمار إستيطاني ، بل فيما أسمته "خلل أمني وبنيوي" داخل المجتمع الفلسطيني ، ما يستوجب وفق الورقة إعادة هندسته عبر نزع السلاح وضبط السياسة وإعادة تشكيل التعليم والمناهج وربط الإعمار والاقتصاد والتمثيل السياسي بشروط أمنية صارمة . وبهذا ، يصبح الأمن الإسرائيلي نقطة البداية والنهاية لأي مسار سياسي أو اقتصادي .
وهنا تتضاعف خطورة هذه الورقة في سياقها الزمني ، إذ تأتي بعد أن فرضت إسرائيل وقائع إستراتيجية منذ أتفاق أوسلو من ضم القدس عملياً وتشريعياً ، توسيع الأستيطان وتحويله إلى بنية دائمة ، تفكيك الضفة الغربية وفق نظام المعازل الجغرافية ، ثم حصار غزة وتعريضها لحرب إبادة جماعية أعادت تعريفها كفضاء يجب إخضاعه وإعادة تنظيمه والسيطرة عليه ، كما والشروع في هدم أجزاء من مخيماتنا بالضفة وأشكال التهجير بما يستهدف مبدأ قضية اللاجئين ومحاصرة السلطة الوطنية مالياً .
هنا يتضح أن ما يُطرح ليس خروجاً من أوسلو رغم إعلان نتنياهو تنكره له أكثر من مرة ، بل انتقالاً به إلى مرحلته النهائية وفق الرؤية الأسرائيلية الإستراتيجية . فإذا كان أوسلو قد أدار شعبنا الفلسطيني عبر سلطة وطنية محدودة الصلاحيات بأنتظار تسوية مؤجلة ، أو بسلطة دون سلطة كما وصفها الرئيس أبو مازن في وقت سابق . فإن النموذج الجديد يدير ما بعد انهيار الوهم السياسي ، عبر فرض كيان منزوع السيادة ، مراقَب أمنياً ومالياً ، بلا قدرة على الفعل أو الأعتراض وتحت وصاية دولية تقودها الولايات المتحدة .
وفي توصيف مكثف لنتائج هذا المسار ، كتب الأخ الصديق والأديب المتوكل طه في مقالته اليوم التي حملت عنوان "دولة" فلسطين قبل "أوسلو" ، فيقول :
«بعد أوسلو غابت النُّخب ، وأصاب الوهنُ بناءاتنا ، وأصبحت الحالة الفلسطينية بين يدي إسرائيل وتحت "المجهر" الاحتلالي ، يتحكّم بنا… ففقدنا المُتحكِّم ! ما أدّى إلى تمزيق الذات الفلسطينية ، وانفراط القوى القادرة على خلق شبكة تحمي المجتمع وأحلامه».
وهو بأعتقادي توصيف يلتقط بدقة كيف مكّن هذا التفكك الأحتلال من الإنتقال من إدارة الصراع إلى إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني ذاته التي تتحدث عنها الورقة اليوم .
حيث تُقدم الورقة الصادرة عن معهد الامن القومي الأسرائيلي ، مفهوم الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح كأفق سياسي ، لكنه في الواقع صيغة دائمة لدولة بلا مضمون ، بلا سيطرة على الأرض أو الحدود أو الموارد ، وباقتصاد خاضع للرقابة وبمنظومة سياسية تُقاس مشروعيتها بمعيار «مكافحة التطرف» لا بإرادة شعب واقع تحت الأحتلال .
وبهذا ، لا يجري فقط نزع سلاح المقاومة ، بل نزع السياسة الوطنية من أصلها بما فيها من أشكال لمقاومة دبلوماسية وقانونية وشعبية وحتى السلمية منها ، وتحويل قضية التحرر الوطني إلى ملف أمني–إداري قابل للإدارة والإحتواء .
إن التعامل مع هذا المخطط وفق تلك الورقة بوصفه أفقاً سياسيا “واقعيا”، أو مدخلاً لإصلاح النظام الفلسطيني كما يريدونه هم بالورقة ، لا يعني سوى واقعية فارغة وسطحيه ، وإعادة إنتاج أوسلو كما أرادته إسرائيل ، وتحويل السلطة الوطنية من أداة انتقالية في مشروع تحرري إلى بنية وظيفية لإدارة السكان تحت الأحتلال .
إن القبول بهذا المخطط ، أو التعامل معه بوصفه أفقاً "واقعيا"، يشكل خطراً أستراتيجياً مباشراً على المشروع الوطني التحرري الفلسطيني وعلى مسار كفاح شعبنا وتضحياته ، ويعيد إنتاج تجربة أوسلو كما أرادتها إسرائيل ، ولكن بصيغة أكثر تقييداً ، وأكثر خطورة ، وأقل قابلية للتراجع .
فوفق ورقة معهد الأمن القومي الأسرائيلي ، فأن الحقوق تصبح مشروطة ، والسيادة مؤجلة ، والإصلاح يُعاد تعريفه كأداة ضبط ، لا كأستعادة للشرعية الوطنية .
الأخطر بالوثيقة ، أن غزة تُطرح كمختبر ، نجاح هذا النموذج ، وفق الرؤية الإسرائيلية الأمريكية ، يعني تعميمه لاحقا على الضفة الغربية دون القدس ، مع تثبيت الأستيطان والضم ، وتحويل السلطة الوطنية إلى جهاز إدارة مدنية وأمنية ، لا إلى نواة مشروع تحرري .
وتزداد خطورة هذا الطرح في ضوء اللقاء المرتقب بين نتنياهو وترامب الذي سيُبقي على خيارات مفتوحة في عداء حقوق شعبنا ، والذي لا يمكن فصله عن محاولة أمريكية–إسرائيلية لإنتاج “أفق سياسي بديل” بعد حرب الإبادة في اطار فرض المتغيرات القسري وعلى منطقتنا ، بما يعيد تأهيل إسرائيل دولياً وإقليميا ، ويدير الصراع بدل إنهاء الأحتلال ، ويوسع اتفاقيات أبراهام سياسياً ، وكأن المشكلة لم تكن أحتلال أستعماري أحلالي ، بل خللاً فلسطينياً .
من هنا ، فإن مواجهة هذا المخطط لا تكون بالرفض الخطابي فقط ، بل بإعادة الإعتبار للرواية الفلسطينية التاريخية واستمرار المقاومة السياسية والقانونية والشعبية وملاحقة إسرائيل كنظام عنصري صاحب جرائم حرب وإبادة جماعية وفق اتهامات المنظمات الحقوقية والمحاكم الدولية لها ، ولضرورة اعادة التأكيد على مفهوم الدولة بوصفها ذات سيادة ومستقلة وديمقراطية باعتبار ذلك حقاً غير مشروط نابعاً من مبدأ حق تقرير المصير ونصوص القانون الدولي ، وبصياغة مشروع وطني تحرري جامع ترتقي به منظمة التحرير كجبهة وطنية عريضة يستند إلى حقوقنا التي اقرتها القرارات الأممية والقانون الدولي في مناهضة مشروع أستعماري يتمثل "بأسرائيل الكبرى" وفق الرؤية الصهيونية ، لا إلى هندسة أمنية صاغها الأحتلال لإدارة ما بعد الإبادة .
