الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 5:10 AM
الظهر 11:39 AM
العصر 2:23 PM
المغرب 4:48 PM
العشاء 6:08 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

التعليم الفلسطيني : أي معرفة نُعيد بناءها في العام الجديد؟

الكاتب: د.ياسر أبوبكر

لم يدخل الفلسطينيون عامًا جديدًا بالمعنى الزمني فقط، بل دخلوا مرحلة مختلفة في علاقتهم بالمعرفة والتعليم. فما جرى خلال العام المنصرم، من تدمير ممنهج للمدارس والجامعات، واستهداف مباشر للطلبة والمعلمين، وانكشاف أخلاقي فادح للنظام الدولي، يفرض سؤالًا لا يمكن تأجيله: ماذا يعني أن نُعلِّم بعد الكارثة؟ وأي تعليم يمكن أن يكون صادقًا مع هذا الواقع، لا متواطئًا مع إنكاره؟

لقد اعتاد الخطاب الرسمي التعامل مع التعليم بوصفه قطاعًا خدميًا يُدار بالحد الأدنى الممكن، وتُقاس جودته بعدد أيام الدوام ونسب النجاح. غير أن هذه المقاربة باتت عاجزة، بل خطِرة، لأنها تفصل التعليم عن سياقه الوجودي. ففي فلسطين، لم يكن التعليم يومًا فعلًا محايدًا، بل كان دائمًا مرتبطًا ببناء الوعي، وحفظ الذاكرة، وإعادة إنتاج المجتمع في مواجهة القهر. والتعليم الذي يتجاهل هذه الحقيقة يتحول تدريجيًا إلى أداة تكيّف سلبي، لا أداة صمود وبناء.

الطفل الفلسطيني الذي يدخل صفه اليوم ليس هو نفسه قبل عام. هو يحمل خبرة قسرية ثقيلة: فقدان، خوف، مشاهد عنف، وأسئلة مبكرة عن العدالة والمعنى. تجاهل هذه الخبرة داخل المدرسة لا يجعلها تختفي، بل يدفعها إلى الداخل، حيث تتحول إلى صدمة غير معالجة. هنا تتكشف فجوة أخلاقية ومعرفية بين ما يعيشه المتعلم فعليًا، وما يُقدَّم له بوصفه "منهاجاً طبيعياً". تعليم يتصرف كما لو أن شيئًا لم يحدث، هو تعليم يُنكر الواقع، ويُضعف الثقة، ويُفرغ المعرفة من معناها الإنساني.

في هذا السياق، يصبح من الضروري الانتقال من النظر إلى التعليم كخدمة إدارية، إلى فهمه بوصفه فعل صمود معرفي. وهذا لا يعني تسييس الصف أو تحميل الطالب خطابات جاهزة، بل إعادة التفكير في جوهر العملية التعليمية: كيف نُعلّم التفكير لا الحفظ، الفهم لا التلقين، التعبير لا الصمت. كيف نمنح المتعلم أدوات لتحليل ما يراه ويعيشه، بدل مطالبته بتجاهله أو القفز فوقه باسم "الاستقرار".

التجربة الفلسطينية تمتلك، رغم الألم، رصيدًا معرفياً فريدًا في التعلّم داخل البيئات القسرية. من تجربة الأسرى في السجون، حيث نشأت أنماط متقدمة من التعلّم الذاتي والتعاوني، إلى التعليم تحت الحصار في غزة، حيث أعاد المعلمون والطلبة ابتكار المدرسة بأدوات شديدة المحدودية. هذه الخبرات لم تُدمج بعد في السياسات التعليمية، وكأن المؤسسة التربوية تخشى الاعتراف بأن المعرفة الفلسطينية تشكّلت في قلب القهر. تحويل هذه الخبرة إلى معرفة معترف بها ليس  ضرورة لبناء تعليم واقعي ومرن وقادر على الصمود.

وتزداد الإشكالية تعقيدًا في الجامعات الفلسطينية، التي تواجه اليوم أزمة دور ومعنى. فالجامعة ليست مجرد مكان لمنح الشهادات، بل فضاء لإنتاج المعرفة النقدية، وتشكيل النخب، وتدريب المجتمع على الحوار والمساءلة. غير أن ما نشهده في عدد من الجامعات اليوم هو اتجاه مقلق نحو محاربة النشاط الطلابي، والتضييق على العمل النقابي والسياسي داخل الحرم الجامعي، تحت ذرائع "الحياد" أو "الأمن" أو "الحفاظ على العملية التعليمية".

هذا التوجه لا يضر بالطلبة وحدهم، بل يضرب جوهر الجامعة نفسها. فالجامعة التي تخشى صوت طلبتها، وتتعامل مع النشاط الطلابي بوصفه عبئًا أمنياً، لا بوصفه تعبيرًا تربويًا وسياسيًا مشروعًا، تتحول إلى مؤسسة خالية من الحيوية. النشاط الطلابي ليس نقيضًا للتعليم، بل جزء أصيل منه. هو مدرسة للمواطنة، ومختبر للمسؤولية، ومساحة لتعلّم الاختلاف والتنظيم والعمل الجماعي. قمع هذا النشاط لا ينتج طلابًا "منضبطين"، بل أفرادًا خائفين أو منفصلين عن الشأن العام.

إن أخطر ما يمكن أن يحدث في هذه المرحلة هو إنتاج تعليم منزوع السياسة بالمعنى الأخلاقي، ومفرغ من الأسئلة الكبرى، في مجتمع يعيش صراعًا وجوديًا مفتوحًا. الجامعة التي تفصل المعرفة عن الواقع الوطني، تخرّج مهنيين بلا بوصلة، وتُضعف قدرتها على الإسهام في بناء المجتمع.

 المطلوب ليس تحويل الجامعة إلى ساحة صراع، بل حمايتها بوصفها مساحة آمنة للنقاش، والتعدد، والتعبير المنظم والمسؤول.

في العام الجديد، لا بد من طرح السؤال المؤجل: أي مواطن نُريد أن يصنعه التعليم الفلسطيني؟ هل نريد متعلمًا مطيعًا يتكيف مع القهر؟ أم ناجياً يبحث عن خلاص فردي؟ أم إنسانًا ناقدًا، قادرًا على الفهم والمساءلة والمبادرة؟ هذا السؤال ليس تنظيرياً، بل ينعكس مباشرة في المناهج، وطرائق التدريس، ونظم التقييم، وسياسات الجامعات تجاه طلبتها.

التعليم قرار سياسي بقدر ما هو تربوي. والاستمرار في إدارته بعقلية الطوارئ الدائمة، دون مراجعة عميقة، يعني إعادة إنتاج الهشاشة جيلاً بعد جيل. أما امتلاك الشجاعة لإعادة بناء فلسفة التعليم في ضوء ما جرى، فيعني الاستثمار الحقيقي في الإنسان الفلسطيني، لا بوصفه ضحية دائمة، بل فاعلًا قادرًا على إنتاج المعنى، رغم كل شيء.

في هذه اللحظة، لا يحتاج التعليم الفلسطيني إلى مزيد من الشعارات، بل إلى وضوح أخلاقي: الاعتراف بما تغيّر، الإصغاء لتجربة المتعلمين، حماية الجامعة كفضاء حر، والكف عن محاربة صوت الطلبة باسم الاستقرار. فإما أن يكون التعليم أداة لإعادة بناء المعنى بعد الكارثة، أو يتحول، بصمته وخوفه، إلى شريك في إنكارها.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...