عقيدة مونرو ليست حِكراً على أميركا اللاتينية بل تستهدف كل العالم
الكاتب: د. محمد عودة
لقد مضى على إعلان الرئيس الأميركي جيمس مونرو عن العقيدة التي عُرفت بعقيدة مونرو أكثر من مئتي عام، ففي 1823 أعلن مونرو عن تلك العقيدة التي كان هدفها المعلن هو حماية دول القارة الأميركية من عودة الاستعمار الأوروبي، تحت شعار «أميركا للأميركيين». لكن الواقع التاريخي كشف أن هذا المبدأ لم يكن مجرد درع حماية للشعوب، بل أصبح غطاءً لشرعنة التدخل الأميركي، وأداة للهيمنة السياسية والاقتصادية، ووسيلة لاستغلال الموارد ونهب الثروات الطبيعية، ليس في أميركا اللاتينية وحدها، اليوم وبعد مئتي عام تعمل أميركا على تطبيق عقيدة مونرو على كل العالم وبالأخص الشرق الأوسط.
في بدايات القرن التاسع عشر، كانت دول أميركا اللاتينية حديثة الاستقلال وتعاني من آثار الحروب الطويلة مع القوى الاستعمارية الأوروبية، برزت عقيدة مونرو كدعوة لتضامن قاري، إلا أن الولايات المتحدة سرعان ما أعادت صياغتها بما يخدم مصالحها، فحوّلت العقيدة من حماية السيادة إلى منع أي نفوذ منافس واحتكار المجال الحيوي للقارة.
مع مطلع القرن العشرين، أصبح تفسير روزفلت لعقيدة مونرو أكثر وضوحًا، حيث حوّل السياسة من رفض التدخل الأوروبي إلى تدخل مباشر بالذريعة الرسمية لحفظ الاستقرار، فانتقلت أميركا من موقع الحارس إلى الوصي والحاكم الفعلي لمسارات السياسة والاقتصاد في دول أميركا اللاتينية.
الانقلابات العسكرية كانت الوسيلة الأكثر استخدامًا لتطبيق تلك العقيدة عمليًا، ففي غواتيمالا أُطيح عام 1954 بحكومة جاكوبو آربينز المنتخبة ديمقراطيًا بعد محاولتها تنفيذ إصلاحات زراعية تهدد مصالح الشركات الأميركية الكبرى، وفي تشيلي عام 1973، أُسقطت أدوات أميركا المحلية حكومة سلفادور أليندي لأنه كان يسعى لتأميم الصناعات والمصادر الطبيعية، ما كان يهدد السيطرة الأميركية على النحاس.
أما نيكاراغوا فقد كانت حالة استثنائية ضمن عقيدة مونرو، هنا، كان الهدف أكثر من مجرد السيطرة على دولة، بل يتعلق بالتحكم بممر محتمل للقناة بين المحيطين الأطلسي والهادئ، في منافسة مباشرة مع قناة بنما. الاحتلال الأميركي بين 1912 و1933 تم بحجة حماية الاستقرار، لكنه في جوهره كان لضمان الهيمنة على الموارد الزراعية والطاقة والممرات الاستراتيجية، وبروز حركة مقاومة مسلحة بقيادة أوغستو سيزار ساندينو والتي خاضت حرب عصابات دفاعًا عن كرامة شعب نيكاراغوا وسيادته، ورغم اغتيال ساندينو إلا أن الثورة نجحت في إجبار الرئيس الأميركي روزفلت على سحب قواته، مما يُعد انتصارًا لإرادة شعب نيكاراغوا.
ومع ذلك لم تتورع أميركا عن محاولة السيطرة على نيكاراغوا عبر أدواتها في الداخل، أسهمت في تنصيب أنستاسيو سوموزا وعائلته حكامًا للبلاد وذلك لضمان استمرار السيطرة، لم تتوقف تلك المحاولات حتى بعد انتصار الثورة الساندينية عام 1979، فقد واصل الأميركيون ممارسة الضغط على نيكاراغوا عبر دعم ميليشيات الكونتراس وفرض حصار اقتصادي خانق، في محاولة لإسقاط تجربة استعادة السيادة الوطنية، بما في ذلك التحكم في الممرات الحيوية الممكنة بين المحيطين.
لقد شكّل مبدأ السيطرة على الثروات الطبيعية جوهر السياسة الأميركية في العالم، وكانت أسباب التدخلات العسكرية والاقتصادية مرتبطة مباشرة بالسيطرة على هذه الموارد، من النفط الذي يشكّل مصدر الطاقة الرئيسي في فنزويلا والمكسيك، إلى المعادن الأساسية مثل النحاس في تشيلي وبيرو، والليثيوم في بوليفيا والأرجنتين الذي أصبح حجر الزاوية في صناعة البطاريات والسيارات الكهربائية الحديثة، كما أن النيكل، الذهب، الفضة، والزنك تحتل مواقع استراتيجية في دول مثل كوبا وبيرو والبرازيل، مع تواجد موارد مائية ضخمة وغابات استوائية غنية بالخشب والأراضي الزراعية الخصبة، بالإضافة إلى إنتاج البن والموز والكاكاو في أميركا الوسطى، كل هذه الموارد كانت حافزًا للهيمنة الأميركية على السياسات المحلية، وإعادة توجيه اقتصادات الدول لخدمة السوق الأميركية، ومنع أي محاولات للاستفادة الوطنية من ثرواتها.
الممرات والموارد المائية كانت محورًا استراتيجيًا لا يقل أهمية عن الثروات المعدنية والزراعية ضمن عقيدة مونرو، الأنهار الكبرى مثل نهر سان خوان وبحيرة نيكاراغوا لم تكن مجرد مصادر للمياه، بل كانت تُعتبر طرقًا محتملة للقنوات المائية بين المحيطين، ما جعل السيطرة عليها هدفًا سياسيًا واستراتيجيًا مباشرًا، مشاريع القنوات في نيكاراغوا وقربها من الأراضي الخصبة والموارد الطبيعية لم تكن مجرد مشاريع هندسية، بل كانت أدوات للتحكم بالمواصلات البحرية العالمية.
لم تقتصر محاولات أميركا للسيطرة على الممرات التجارية والموارد الطبيعية على أميركا اللاتينية بل امتدت وتمددت باتجاهات عدة، المعادن في دول إفريقيا، البترول والممرات المائية في الشرق الأوسط وإفريقيا، إن اهتمام أميركا بكل الممرات المائية مثل باب المندب، جبل طارق، البوسفور والدردنيل يهدف إلى منع سيطرة المنافسين على الشرايين الحيوية للتجارة الدولية، كما يُعد امتدادًا للنفوذ الجيوسياسي ويمكن أميركا من التحكم بالتجارة الدولية، ومرور الطاقة والموارد.
أما بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، فقد تعزز منطق عقيدة مونرو لكن بصيغ جديدة، الديمقراطية، حقوق الإنسان، ومكافحة الفساد، محاربة الإرهاب، مع بقاء جوهر العقيدة يتمثل في العقوبات والضغط على الدول المستقلة، ففي السنوات الأخيرة، تجلى هذا المنطق في التنافس على المعادن الاستراتيجية مثل الليثيوم والنحاس والنيكل والذهب، حيث دخلت شركات مرتبطة بنجل الرئيس الحالي دونالد ترامب في مفاوضات لعقود بمليارات الدولارات تتعلق بالمعادن النادرة، ما يؤكد أن السيطرة لم تعد فقط عسكرية، بل اقتصادية ورأسمالية.
كما يمكن إدراج حالة أوكرانيا هنا كنموذج معاصر. منذ بداية الصراع، ترافق الدعم العسكري والمالي الأميركي مع مطالب واضحة لإعادة هيكلة الاقتصاد الأوكراني وفتح قطاع الموارد الطبيعية، ولا سيما المعادن الاستراتيجية، أمام الشركات الغربية. يظهر الاهتمام بالليثيوم والتيتانيوم والمعادن الحرجة الأخرى المستخدمة في الصناعات العسكرية والتكنولوجية أن منطق ربط الدعم العسكري بالسيطرة على الموارد، الذي شكّل جوهر عقيدة مونرو، لم يعد مقتصرًا على أميركا اللاتينية أو الشرق الأوسط، بل امتد أيضًا إلى أوروبا الشرقية تحت عناوين الدعم، الحماية والدفاع عن السيادة.
رغم أن عقيدة مونرو بالأساس مرتبطة بأميركا اللاتينية، إلا أنها كانت تشمل مناطق واسعة من العالم دون إعلان، فقد عملت أميركا كل ما في وسعها سواء بشكل مباشر أم من خلال أدواتها الى السيطرة على ثروات الشرق الأوسط أيضًا، تضاعفت هذه المحاولات بعد الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء حين احتلت قيادة العالم دون دفع ثمن يُذكر كما دفع بقية الحلفاء.
إن تطبيق عقيدة مونرو في الشرق الأوسط أصبح جليًا لدرجة الوقاحة، فطرح مشاريع مثل صفقة القرن، قناة بن غوريون كبديل لقناة السويس، بيع الجولان لإسرائيل، ريفيرا غزة ومشروع شروق الشمس الذي يمكن أميركا من الحصول على تريليونات عبر السيطرة على حقول الغاز والنفط وبناء المنتجعات التي ستجلب أموالًا طائلة من خلال السياحة الدافئة، كلها تهدف إلى السيطرة على الموارد والممرات الحيوية وفرض النفوذ السياسي والاقتصادي، على حساب كرامة شعوب المنطقة.
في جوهرها، لم تكن عقيدة مونرو مجرد إعلان سياسي، بل إطارًا أيديولوجيًا لتبرير التدخل والسيطرة على شعوب وموارد، سواء في أميركا اللاتينية أو الشرق الأوسط، وتحت شعارات الحماية والاستقرار، لقد تم تقويض سيادة الشعوب ونهب الثروات وإجهاض التجارب الديمقراطية، فمع التغيرات العالمية ووعي الشعوب، وظهور أقطاب جديدة لها قدرة على مواجهة عقيدة مونرو فإن هذه العقيدة تواجه اختبارًا حقيقيًا بين الاستمرار كرمز للهيمنة أو التحول إلى شهادة على نهاية زمن كانت فيه القارات تُدار من خارجها، في الختام لا بد من وقفة جادة من كل احرار العالم لفرض عقيدة الإنسانية قبل كل شيء، مما سيضع حدًا لعقيدة مونرو وكل العقائد الاستعمارية.

