من العدالة إلى الكرامة: هل تُصلِح "تمكين" منظومة الحماية أم تُعيد تعريف التضحية؟
الكاتب: د.ياسر أبوبكر
ليس الجدل الدائر حول المؤسسة الوطنية الفلسطينية للتمكين الاقتصادي ("تمكين") جدلًا تقنيًا أو إداريًا، ولا هو خلاف على استمارة أو آلية صرف. ما يجري أعمق من ذلك بكثير. نحن أمام اختبار أخلاقي وسياسي: كيف تُدار الحماية الاجتماعية في سياق استعمار استيطاني؟ وهل يجوز تحويل ملف الأسرى و الشهداء والجرحى من حق وطني مرتبط بالتضحية إلى حالة اجتماعية تُقاس بمعايير الفقر والاحتياج؟
لقد دخلت "تمكين" قلب أكثر الملفات حساسية في الوعي الفلسطيني. ولذلك فإن أي قراءة سطحية تُخطئ جوهر الأزمة، وأي خطاب يكتفي بالحديث عن "المعايير الدولية" دون مساءلة معناها في سياقنا، يفتح فجوة ثقة لا تُردم بالبيانات ولا بالتدقيق الدولي.
أولًا: ما الذي تغيّر فعليًا؟
التحول الذي فرضه القرار بقانون رقم (4) لسنة 2025 ليس تعديلًا إجرائيًا؛ إنه تغيير في الفلسفة. أُلغيت منظومة الاستحقاق القائمة على الصفة (أسير/شهيد/جريح)، واستُبدلت بنظام "بحث اجتماعي موحّد" يُحدّد الاستحقاق وفق معيار الاحتياج فقط. هكذا، لم يعد عدد سنوات السجن أو طبيعة الإصابة أو ثمن الشهادة عنصرًا في القرار المالي.
من حيث النص، يبدو الأمر "عادلًا" ومحايدًا. لكن من حيث المعنى، نحن أمام إعادة تأطير: تحويل التضحية من حق ثابت إلى متغير قابل للقبول أو الرفض. وهذا، في مجتمعنا، ليس تفصيلًا.
ثانيًا: أين انفجرت الأزمة؟
الأزمة ليست في النية المعلنة، بل في الأثر المتحقق.
1. الكرامة قبل المعيار :
عندما يُطلب من أسير محرر أو أم شهيد أن يثبت "احتياجه"عبر استمارات تفصيلية، فإن الرسالة المتلقاة ليست "نريد أن نساعدك بعدالة"، بل "أثبت أنك تستحق". هنا تُصاب الكرامة في الصميم. ليست كل عدالة رقمية عادلة أخلاقيًا، خصوصًا حين تُطبَّق على من دفعوا ثمنًا وجوديًا لا يُقاس بالدخل.
2. الصدمة المعيشية :
اعتراف "تمكين" بأن "عددًا كبيرًا"من العائلات التي كانت تتلقى مخصصات لن تنطبق عليها المعايير الجديدة يعني عمليًا انقطاع دخل عن أسر في اقتصاد محاصر. الإصلاح الذي لا يُرفَق بمرحلة انتقالية آمنة يتحول إلى عبء اجتماعي، مهما كانت لغته أنيقة.
3. غياب التشاركية:
خرج القرار دون توافق مجتمعي كافٍ، ودون إشراك حقيقي لمؤسسات الأسرى والشهداء والجرحى في تصميم النموذج. الإصلاحات الكبرى، إن لم تُصمَّم مع أصحاب الشأن، تُواجَه بالمقاومة حتى لو كانت صحيحة تقنيًا.
4. حرب الروايات والضغط الخارجي:
وُضعت "تمكين" في مرمى اشتباك دولي: من جهة، ضغوط غربية تشجع "إصلاح" منظومة الدفعات؛ ومن جهة أخرى، تشكيك إسرائيلي دائم في أي خطوة فلسطينية. في هذا المناخ، بدا الإصلاح-حتى لو قُدّم كخيار سيادي-وكأنه موجَّه لإقناع الخارج قبل طمأنة الداخل.
ثالثًا: هل "تمكين" ضرورية؟ نعم ،،، ولكن بشروط.
لا يمكن إنكار الحاجة إلى نظام حماية اجتماعية موحّد يحدّ من الازدواجية ويُخضع الصرف للحوكمة والرقابة. فلسطين بحاجة إلى مؤسسات قوية، شفافة، قادرة على الصمود أمام الابتزاز السياسي.
لكن المشكلة ليست في وجود "تمكين"، بل في موضعها وطريقة عملها. فالسياق الفلسطيني ليس سياق دولة مستقرة ، نحن نعيش تحت احتلال يصنع الفقر قسرًا، ويجعل من الأسرى والجرحى و الشهداء وأهاليهم ركيزة في العقد الاجتماعي الوطني. تجاهل هذا البعد وتحويله إلى ملف "حماية اجتماعية" محض، هو خطأ في قراءة الواقع.
رابعًا: بيان "تمكين"،،، قوة قانونية وضعف اجتماعي:
بيان المؤسسة قوي في تأكيده القطيعة الكاملة مع الأنظمة السابقة، واستعداده للتدقيق الدولي، والتزامه بالنص القانوني. هذه عناصر قوة في مخاطبة العالم.
لكن البيان نفسه يُظهر ضعفًا جوهريًا في غياب خطاب الكرامة ، فهو لم يقدّم تطمينات كافية حول آليات الاستئناف، ولا حول حماية البيانات، ولا حول مرحلة انتقالية تحمي الأُسر من السقوط المفاجئ. وهنا تتآكل الثقة، حتى لو كانت النوايا حسنة.
خامسًا: الكرامة ليست عائقًا أمام الإصلاح:
المعادلة ليست صفرية. يمكن-بل يجب-أن نجمع بين العدالة الاجتماعية وصون الكرامة الوطنية. الإصلاح الحقيقي هو الذي يُقنع الناس لأنه يحترمهم، لا لأنه مدعوم دوليًا.
أخيرًا و ليس آخرًا ، المطلوب حلول عملية لا شعارات.
إذا أرادت "تمكين" أن تتحول من بؤرة أزمة إلى رافعة إصلاح، فهذه خطوات لا مفر منها:
1. مرحلة انتقالية ملزمة: دفعات مؤقتة لمدة ستة أشهر على الأقل لكل من يُعاد تقييمه، منعًا لصدمة الدخل.
2. حق استئناف واضح ومحدّد زمنيًا، مع نشر المعايير بلغة بسيطة مفهومة.
3. فصل الكرامة عن الفقر: مكوّن ثابت لصون الكرامة (خدمات/تأمين/دعم مادي و معنوي ) لا يخضع لاختبار الاحتياج، مع بقاء المخصص النقدي وفق المعايير.
4. مجلس رقابة وطني مستقل يضم مؤسسات الأسرى ونقابة المحامين وخبراء اجتماعيين، لا موظفين فقط.
5. شفافية دورية: تقارير ربع سنوية تُظهر الأرقام والاتجاهات دون المساس بالخصوصية.
6. إشراك أصحاب الشأن في تعديل الاستمارات والنماذج، لا فرضها عليهم.
7. حماية صارمة للبيانات في بيئة احتلال.
8. خطاب صادق: الاعتراف بأن الإصلاح يوازن بين حماية الحقوق الوطنية وتقليل الابتزاز الخارجي، دون إنكار الواقع.
في النهاية، ليست القضية هل نُصلح أم لا؛ بل كيف نُصلح دون أن نكسر العمود الفقري للكرامة الوطنية. الأسرى والشهداء والجرحى ليسوا "ملفًا اجتماعيًا" عابرًا، بل هم مرآة معنى الدولة نفسها. ومن يفشل في صون كرامتهم، يفشل-مهما حسنت نواياه-في بناء إصلاح يُقنع شعبًا دفع ثمن حريته من دمه.

