خيالُ الواقع في النَصّ الابداعي
الكاتب: المتوكل طه
***
لا شيء يُدعى الخيال! لأن ما نلتقطه ونتخيّله هو من الواقع، بالضرورة والفعل. وكلّ ما نفعله، ونسمّيه خيالا أو إبداعا، هو أننا نعيد تركيب ما التقطناه، ونعيد صياغته، وقد نذهب إلى الفنتازيا، في ذلك، فنقدّم خيالًا لا يشبه الواقع، لكنه مُستَمَد منه. ولا أبالغ إذا جزمت بأن لا شيء نفكّر به وفيه، من الخارج المُتاح والمنظور. حتى أن عملية "التفكير" نفسها تلزمنا بأن يكون ما سنفكّر به موجودا، ولدينا آليات للتواصل معه(الحواس الخمس)، ولدينا معلومات مُسْبقة حوله وعنه..وإلا فالتفكير لن يكون علميا أو موضوعيا، وسيشطح في الوَهْم. من هنا تبدأ عملية استقدام الذكريات، أو التبصّر في مكوّنات الواقع الملموس حولنا، فنأخذ ما يناسبنا، ونشذّبه، أو نعجنه، أو نعيد تركيبه، أو نقتطع منه..ونُجري عمليات وَصْل جديدة، أو قَطْع، أو تلوين أو تبهيت أو تضخيم..أو ما إلى ذلك. ومن هنا، أيضا، تبدأ مهمّة اللغة، التي هي ليست أداة تواصل، بقدر ما أنّها تعيد صياغة الواقع وتشرحه أو تقزّمه أو تعظّمه أو تنتقده، من خلال الكاتب. بمعنى؛ أن الكاتب يستدخل الواقع إلى عقله ووجدانه، فتجري عمليات إعادة الطبْخ والتركيب، بكيمياء الكاتب، التي، ربّما، تُذيب ملامح الواقع، وتُعيد هيكلته، وتعطيه نسغا وملامح جديدة.
أما النصّ المُنتَج فهو حصيلة تلك العمليّة المُركّبة، التي قد تسلّل إليها اللاوعي، بجموحه وغموضه وسورياليته، مثلما أعمل الوعيُ عمليّاته في تشكيل النصّ ومدّه بألوان وروح تغيّاها الكاتب نفسه. فالكتابة وطقوسها مترابطان بشكل يستدعي كلّ منهما، إذا حضر الآخر، وكأن الكتابة، بهذا المعنى، لا تتكامل إلا مع خارجها، ولم لا! فالكتابة على ذاتيتها هي استحضار "الآخر"، أو استدراج الخارج عن طريق إخراج الداخل. والكتابة - عملياً - ليست بنت واقعها فقط، إنها نتاج طويل من الخبرة الشخصية والجماعية، الفردية والجمعية، "الأنوية" و"الأخروية".. الكتابة فيها "الآخر" حاضراً، شئت هذا أم أبيت.
والكتابة هي عمل فردي حقاً ولكنها تتضمن كل ما فعله "الآخر" (الواقع) بي..وكل ما تركه لي..الكتابة تنفتح على التاريخ من جهة والعالم الموضوعي من جهة أخرى.. فهي محصّلة قوى روحية ونفسية وتاريخية، وبهذا، فإن الاطلاع المعرفي يشكّل للكاتب دعامة حقيقية وركيزة قوية لإثراء ما يريد قوله.
بلغة أخرى؛ النصّ يكتب خارجه، وهو واعٍ لواقعه الموضوعي، لكنه، ومع ذلك، خيار شخصي أيضاً، مجال فردي بالتأكيد، ولهذا فإنني لا أفكر بالجمهور أثناء الكتابة، ومع ذلك فإن الجمهور حاضر فيها، ففي نهاية الأمر فإن النصّ الابداعي هو ابن جمهوره، ولهذا لا يمكن أن تخونه أو تقف ضده أو تصدمه. النصّ ابن ذوق جمهوره وزمنيته ومكانه..والكاتب الحقيقي خير من يدرك "القاع الغامض" للجمهور الذي ينتمي إليه.
ولا أجانب الحقيقة إذا قلت إنّ النصّ له قدرة عجيبة على نقلي إلى عالمه الخاص، وإنه يفرض عليّ شكلاً من أشكال التعامل والمعالجة، إذ يفرض عليّ مفرداته وتعابيره و"قيمه" الخاصة ومكانه وزمانه. وللنصّ كينونة خاصة خارجة عني، وبتشكّله التدريجي يشكّلني معه، ومن ثم تزداد المسافة بيني وبينه، وفي هذه الحالة عليّ أنا أن افهم العلاقات داخل النصّ، الذي يتطوّر بعيداً عني. لهذا؛ أعتقد أن لكلّ نصّ أجواءه الخاصة بها، مفردات وإيقاعات وألحاناً وصورا وأساليب، شكلاً ومعنى.
***
كيف يبدأ النصّ عندي؟
أقف مستجمعاً كل ذرّة من تركيزي الذهني لأتابع ملايين المرّات التي طاف الإلهام حولي أو رفرف في مخيلتي. وشيطان الإبداع (الإلهام) هذا قد يكون كلمة عابرة قالها بائع خضراوات أو سائق سيارة، وقد يكون وجهاً جميلاً لامرأة تدخل عامها الثمانين، وقد يكون حكاية طريفة مليئة بالمفارقة أو الغرابة، أو صوتاً عميقاً أو دافئاً أو مجلجلاً، وقد يكون لحناً يأخذ بمجامع الجسد ليرميه في أتون من جنون الحركة أو الحرية، وقد يكون رائحة لطيفة تمرّ على الجسد والروح فتوقظهما، وقد يكون شعوراً قوياً دافقاً يجعل الدموع تطفر من العينين، وقد يكون كل مؤثر له قدرة على تحريك شيء ما في دواخلنا.
شيطان الشِعر والنثر هذا خفيف، ناعم، هوائي، إنه يشبه رماداً ناعماً جافاً، يتحرّك لأبسط وأقّل من نفحةٍ لطفلٍ في الثانية من عمره.
وهكذا؛ فإن ميلاد النصّ، وخاصةً القصيدة يبدأ غامضاً، وبعيداً، ومبهماً، غير محدد المعالم ولا واضح القسمات، تبدأ القصيدة بكلمة أو رائحة أو إيقاع أو ذكرى، أو حتى مجرد رغبة طاغية بالقول أو التعبير - أعتقد أن هناك في قلب كل فنان رغبة صاعقة بالتعبير تعكس ميله القوي للمشاركة -.
الإبهام الأولي هذا، يتجمع ويحتشد، ويتركز ويتحدد بالمثيرات من جهة والحفر تحته من جهة أخرى، وذلك بتذكّره، واستثارته، وعرضه واستعراضه في لحظات كثيرة في اليوم الواحد، وادّعي أن هذه الفكرة المبهمة تدهمني في لحظات السهو أو لحظات التأمل، أو - وهذا من العجيب - في لحظات جيشان الشعور غضباً أو فرحاً.
وبتكثف العمليات المحيطة بهذا الإبهام، يتحدّد الاتجاه، اتجاه الشعور على الأقل، تصبح الفكرة - على عدم وضوحها- أكثر صلابة، إذ تتجمع أفكار أخرى مشابهة، تتجاذب فيما بينها بالتشابه أو التناقض، أو تتناسل الفكرة الأولى عدداً من الأفكار الجزئية المرتبطة بها إسناداً أو نقضاً، ربما كان من غير العلمي أن أسمي هذه الآليات اسم فكرة، بالمعنى الحقيقي، فمن الواجب، وتحرّياً للدقة، فإن هذه "المشاعر" تبحث عن "أفكارها" وليس العكس، فالمشاعر الغامضة تحب أن تتسمّى.
وبتسمية المشاعر، فإنها تتوزع بطريقة أقرب إلى المنطق، بمعنى الترتيب، التقديم والتأخير، الأولى فالأولى، الأهم فالمهم فالأقل أهمية، ولكن هذا لا يريح أيضاً، إذ لا بدّ من المراجعة، والمقارنة، والمقايسة، والاستحضار، والمقابسة.

