الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 5:04 AM
الظهر 11:34 AM
العصر 2:19 PM
المغرب 4:43 PM
العشاء 6:03 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

يا بُني ... هم يشبهوننا، لكنهم لا ينتمون إلينا

الكاتب: عـمـر رحـال

هم يشبهوننا، لكنهم لا ينتمون إلينا.بهذه العبارة الملتبسة، القاسية، يمكن تلخيص مأساة الفلسطيني في نظر العالم. فهو إنسان كامل الملامح، يتكلم لغة البشر، يحب، يحلم، يعمل، يخاف، ويأمل، لكنه حين يقع تحت العدوان لا يعامل كإنسان كامل الحقوق، بل كحالة استثنائية، كرقم، كخبر عاجل، كعبء سياسي، أو كتفصيل مزعج في معادلات دولية كبرى. الفلسطيني يشبه الجميع، لكنه لا ينتمي إلى النظام العالمي الذي يفترض أنه أُنشئ لحماية البشر من الظلم، ولا إلى الضمير الإنساني الذي يفترض أنه لا يفرق بين دم ودم. الفلسطيني لا يختلف عن أي إنسان آخر في جوهره، لكنه مختلف في موقعه من العدالة. يولد كما يولد الأطفال في كل مكان، لكنه يولد محاطاً بأسلاك الاحتلال، وتكبر أحلامه في ظل الحصار والخوف. يتعلم كما يتعلم غيره، لكن طريقه إلى المدرسة والجامعة قد يقطعه جندي أو مستوطن أو حاجز أو قذيفة. يحب الحياة، لكنه يجبر على التعايش مع الموت كجار دائم.

هنا تبدأ المفارقة القاسية الفلسطيني يشبهنا، لكن العالم يتصرف وكأنه لا ينتمي إلينا، وكأن معاناته لا تستحق نفس القدر من الغضب أو التضامن أو الفعل. منذ عقود، يعيش الفلسطيني تحت منظومة عنف مركبة، لا تقتصر على القتل المباشر، بل تشمل هدم البيوت، مصادرة الأراضي، الاعتقال التعسفي، الحصار، الإغلاق، منع الحركة، تجفيف الاقتصاد، وتفكيك المجتمع. العدوان الإسرائيلي لا يستهدف فقط الجسد، بل يستهدف الزمن الفلسطيني نفسه، يحاول كسر الاستمرارية، جعل الحياة مؤقتة، والوجود قابلاً للإلغاء في أي لحظة. ومع كل جولة عدوان، تتجدد الأسئلة القديمة، كم من الدم يكفي ليتحرك العالم؟ وكم من الصور يحتاج الضمير الدولي كي يعترف بأن ما يجري ليس صراعاً متكافئاً، بل ظلماً صارخاً؟ في غزة، حيث يتحول البحر إلى حدود مغلقة، والسماء إلى مصدر خطر، يعيش الناس تحت قصف لا يميز بين بيت ومستشفى ومدرسة. الأطفال هناك لا يعرفون معنى الأمان، بل يتعلمون مبكراً أسماء الطائرات وأنواع الصواريخ والقذائف. وفي الضفة الغربية، يمتد العنف بأشكال أخرى، اقتحامات ليلية، واعتقالات، مستوطنون مسلحون، طرق مقطعة، وحواجز دائمة وطيارة ، وقرى محاصرة، وجدار .

أما القدس، فتعيش صراعاً يومياً على الهوية، حيث يستهدف الوجود الفلسطيني نفسه، في البيوت، والشوارع، والمقدسات. في كل هذه الجغرافيا، تتكرر الحكاية ذاتها، إنسان أعزل في مواجهة قوة عسكرية مدججة، وصمت دولي ثقيل. العالم يرى، لكنه يختار أن يرى بعيون سياسية لا إنسانية. البيانات تصدر بسرعة، لكنها غالباً متوازنة ببرود، تساوي بين الجلاد والضحية، وتطالب "بالتهدئة" دون مساءلة عن أصل العنف. تستدعى مفردات القانون الدولي حين تخدم مصالح القوى الكبرى، وتعلق حين يتعلق الأمر بالفلسطيني. الجرائم توثق، لكن المحاسبة تؤجل، ثم تنسى. وكأن الفلسطيني لا ينتمي إلى الفئة التي تستحق العدالة الكاملة، بل إلى هامش يمكن التضحية به باسم الاستقرار أو المصالح أو التحالفات.

 أما الموقف العربي، فيحمل تناقضاً أشد إيلاماً. فالفلسطيني، الذي يفترض أنه ينتمي إلى عمقه العربي طبيعياً، يجد نفسه في كثير من الأحيان وحيداً. صحيح أن الخطاب العاطفي حاضر، وأن الشعارات لا تغيب، لكن الفعل السياسي غالباً ضعيف، ومتردد، ومحكوم بحسابات داخلية وخارجية. بعض الأنظمة العربية اختارت الصمت، وبعضها اختار التطبيع، وبعضها اكتفى بدور المتفرج القلق. وبين هذا وذاك، يبقى الفلسطيني يدفع الثمن، بينما يتآكل الإحساس الجماعي بأن ما يجري ليس قضية بعيدة، بل جرحاً مفتوحاً في الجسد العربي. هذا التباعد بين الفلسطيني والعالم، وبين الفلسطيني ومحيطه، لا يعني أن الفلسطيني فقد إنسانيته أو انتماءه، بل يعني أن النظام العالمي نفسه يعاني من أزمة أخلاقية عميقة.

فحين تصبح حقوق الإنسان انتقائية، وحين تقاس قيمة الضحية بهويتها السياسية، تفقد القيم معناها الحقيقي. الفلسطيني لا يطلب امتيازاً، بل يطلب الحد الأدنى ، أن يعامل كإنسان، أن يُحمى من القتل، أن يحاسب من ينتهك حقوقه، وأن لا يطلب منه دائماً أن يكون "أكثر صبراً" من قدرته على الاحتمال. ورغم كل ذلك، يواصل الفلسطيني الحياة. هنا تكمن المفارقة الأعمق. تحت الركام، تولد قصص حب. تحت الحصار، تكتب القصائد. تحت القمع، تزرع أشجار الزيتون. الفلسطيني لا يختزل نفسه في دور الضحية، بل يتمسك بإنسانيته كفعل مقاومة.

هذا التمسك بالحياة، بهذا الشكل العنيد، هو ما يفضح زيف العالم الذي يدعي الدفاع عن القيم بينما يعجز عن حماية أبسط أشكال الحياة. هم يشبهوننا، لأنهم بشر مثلنا، لكنهم لا ينتمون إلينا كما يتصرف العالم. هذه الجملة ليست توصيفاً للفلسطيني، بل إدانة لنا جميعاً. إدانة لعالم قبل أن يرى المأساة الفلسطينية كأمر طبيعي، ولضمير عالمي اعتاد صور الدم، ولخطاب سياسي فرّغ العدالة من معناها. الفلسطيني لا يحتاج إلى شفقة، بل إلى موقف. لا يحتاج إلى بيانات، بل إلى فعل. ولا يحتاج إلى أن يسأل دائمًا عن قدرته على الصمود، بل عن سبب اضطراره الدائم إلى الصمود أصلاً وفي النهاية، يبقى السؤال معلقاً ، متى يصبح الفلسطيني "منتمياً" بالكامل إلى هذا العالم؟ متى ينظر إلى معاناته كما ينظر إلى معاناة أي شعب آخر؟ الجواب لا يتعلق بالفلسطيني وحده، بل يتعلق بمستقبل الإنسانية نفسها. لأن عالماً يقبل بهذا القدر من الظلم، ثم يواصل الحديث عن القيم، هو عالم يشبه العدالة، لكنه لا ينتمي إليها.

الكيل بمكيالين ليس تفصيلاً عابراً في التجربة الفلسطينية، بل هو جوهر العلاقة بين الفلسطيني والعالم. هو الإطار الذي تفهم من خلاله المواقف الدولية، وهو العدسة التي تكشف كيف يمكن للعدالة أن تتحول إلى أداة انتقائية، تستخدم حيناً وتهمل حيناً آخر. فالفلسطيني لا يعاني فقط من الاحتلال، بل من منظومة عالمية قررت منذ زمن أن ترى فيه حالة استثنائية، لا تنطبق عليها القواعد نفسها التي تطبق على الآخرين.

الكيل بمكيالين هنا لا يقتصر على العالم الغربي، بل يمتد إلى الإقليم نفسه، حيث ترفع الشعارات، لكن تخفض التوقعات. العالم، من جهته، يبرر صمته بحجج جاهزة ، تعقيد الصراع، حساسية المنطقة، ضرورة التوازن. لكن هذه الحجج تنهار أمام حقيقة بسيطة، العدالة لا تتجزأ. لا يمكن أن تكون حقوق الإنسان عالمية في الخطاب، وانتقائية في التطبيق. لا يمكن إدانة الاحتلال في مكان، وتبريره في مكان آخر. هذا التناقض هو ما يجعل الفلسطيني يشعر بأنه يشبه الجميع، لكنه لا ينتمي إلى أي منظومة تحميه فعلاً.

هنا تبدأ الحكاية ، حكاية شعب يشبه العرب في كل شيء، بل العالم أجمع ، في التاريخ والجغرافيا والثقافة واللغة والمصير، ومع ذلك لا يجد من ينتصر له ورغم كل ذلك، فإن الفلسطيني لم يكن يوماً غريباً عن محيطه العربي، ولا حالة استثنائية خارجة عن سياقه الطبيعي. فالتاريخ الذي تشكل على هذه الأرض هو ذاته تاريخ المنطقة العربية، تشابكت فصوله قبل أن تقسم الجغرافيا وتصاغ الهويات السياسية الحديثة. اللغة واحدة، لا بوصفها أداة تواصل فحسب، بل بوصفها حاملة للذاكرة والمعنى والوجدان الجمعي. والثقافة، بكل ما تحمله من عادات وفنون وقيم، لم تكن يوماً منفصلة، بل كانت وما زالت نسيجاً متداخلاً يعكس وحدة التجربة الإنسانية العربية. وحتى المصير، الذي كان يفترض أن يكون مشتركاً، ظل مرتبطاً تاريخياً بفلسطين، بوصفها نقطة اختبار دائمة لقدرة العرب على الدفاع عن أنفسهم، وعن حقهم في تقرير مصيرهم بعيداً عن الهيمنة والوصاية.

لهذا يقف الفلسطيني اليوم أمام سؤال لا يمكن تجاهله ، لماذا لا يُنتصر لنا، ونحن جزء من هذا الجسد العربي؟ لماذا يتحول القرب التاريخي والثقافي واللغوي إلى مسافة سياسية باردة، وإلى صمت أو تردد حين يطلب موقف واضح؟ ولماذا يصبح التضامن موسمياً، يتصاعد مع الحدث ثم يخبو، مرتبطاً بالانفعال العابر لا بالالتزام الأخلاقي والسياسي المستدام؟ هذه الأسئلة لا تعبر عن عتب عابر، بل عن وعي عميق بأن ما يجري في فلسطين هو انعكاس لاختلال أوسع في بنية النظام العربي ذاته.

الإجابة ليست بسيطة، لكنها تكشف أن أزمة فلسطين لم تعد أزمة شعب يواجه الاحتلال وحده، بل أزمة نظام عربي بأكمله، أزمة انفصال متزايد بين ما يجمع العرب في التاريخ والثقافة واللغة والمصير، وبين ما يفرقهم في السياسات والخيارات والمصالح. وفي هذا الانفصال، يدفع الفلسطيني الثمن الأكبر، لأنه يقف في الخط الأمامي لصراع لم يختره وحده، لكنه يُجبر على حمل نتائجه باسم الجميع، وعلى أن يكون شاهداً حياً على فشل جماعي يتجاوز حدود فلسطين نفسها.

فهناك الكثير من الدول العربية عالقة في حسابات معقدة، تخشى المواجهة، وتفضل السلامة على العدالة. بعضها يرى في فلسطين عبئاً سياسياً، وبعضها الآخر يخشى أن يكون الانتصار لها تذكيراً بمسؤوليات لم يعد مستعداً لتحملها. وهكذا، يصبح الفلسطيني وحيداً، ليس لأنه بلا روابط، بل لأن الروابط لم تعد كافية لتحريك الفعل.

ومع ذلك، ورغم هذا الإحساس العميق بالخذلان، لا يتخلى الفلسطيني عن إيمانه بأن الحقيقة في صفه. هو يعرف أن التاريخ لا يكتب فقط بالقوة، وأن الجغرافيا لا تبقى أسيرة الخرائط المفروضة، وأن الثقافة أقوى من محاولات الطمس، وأن اللغة قادرة على استعادة معناها الحقيقي. يعرف أيضاً أن المصير المشترك ليس شعاراً فارغاً، بل حقيقة مؤجلة، تنتظر لحظة صدق جماعي. أن لا ينتصر لنا أحد، لا يعني أننا بلا حق، بل يعني أن العالم لم يصل بعد إلى مستوى القيم التي يدعيها. الفلسطيني، في نهاية المطاف، لا يطلب معجزة، بل يطلب اتساقاً أخلاقياً، أن يقاس بميزان واحد، وأن تطبق عليه القواعد ذاتها، وأن ينظر إليه كإنسان لا كاستثناء. وحين يحدث ذلك، لن يكون الفلسطيني وحده من ينتصر، بل الإنسانية كلها، الله غالب .....

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...