إنهم يحطّمون أضلاع الأسرى! إلى مروان وسعدات، ولِمَن خُلِقوا للحرّيّة
الكاتب: المتوكل طه
بعد ثلاثمائة ألف شهيد ومفقود ومطمور وجريح، وعلى بُعْدِ نبضةٍ من القدسِ العاصمة، وعلى مَرمى وَردةٍ من عسقلان، ومن ساحات البلاد؛ أُمِّ الأساطيرِ التي لا تموت، نتوجّهُ إلى أسرى الكرامةِ، وإلى القادة منهم، الذين يحتملون التحطيم والضرب والأذى السّاديّ، نيابة عنّا جميعا، باعتبارهم عناوين الحرية الأكيدة، وأمل الأبواب، لأنْ تنشقَّ، وتنفتح على مصاريعها..إلى مروان وسعدات، وباقي الأسماء العالية، التي هي اليوم أسماء فلسطين..نقول؛ إنكم أرواحُ الأرضِ، وأنبياءُ الصبر، الذين أرجعوا لنا مرايا الجبّارين وفجرَ العماليق، وزاوجوا بين الوَّتَرِ والعرين، وأعادوا الفحولةَ إلى الأرجوان تحت أقواس الدم والنار. نقول لكم: إذا خُلِق السجنُ لكم فقد خُلِقتُم للحريّة. فَسلامٌ على أبدانكم النبويّة، وعلى جوعِكم المقاتلِ، وعلى عطشِكم الجليلِ، وعلى لحمكم الذي تدبّغ وتغضّن، وفاح بأرجوانه، وأنتم تدافعونَ به عن فلسطين، البعيدةِ عن خطوطِ السُّوءِ والهزيمةِ واليأسِ والإبادة المفتوحة، وتواجهونَ الإلغاء والشطب والفاشية، وانغلاقَ السُبُلِ والضُّمورَ والقضبان، وتقفونَ في وجهِ العَبثِ الدمويّ الاحتلاليِ، الذي يسعى إلى تفريغِ الحركةِ الوطنية، والأسيرةِ من مضامينِها ومحتواها الوطنيِ والإنساني.
الثمن باهظ! لكنّ البحرَ سيأتي ليملأ ضلوعَكم، لتظلّوا زَخمَ الرَّعدِ، والبرقَ المُختَزِنَ في غيومِ السماء، حتى تبقى المعتقلاتُ قِلاعاً، إلى أن ينحطم البابُ ويدخل النهار، ولترجعَ الحركةُ الأسيرةُ الحرّةُ إلى سَبيكَتِها الذهبيّة، تحفظُ مُنجزاتِ الشهداءِ والمناضلين، وحتى لا نستمرئ السّكينَ على رقابنا، أو يشحذونَها على عظامِنا.
نقولُ لكم: لستُم وحدَكم! إنَّ شعبَكم يتنفّسُ في ظهورِكم، ومعكُم المآذنُ والأسوارُ والأجراسُ والرُّضّعُ والهتافُ والمعابدُ والأغاني..
أيها الأسرى! يا نجومنا الباقية، وحدها في هذا الليل البهيم! إنكم تتربّعون الآن على سِدَّةِ الخلود، في كَعْبةِ الأقوياء وكَرْنَكِ الأشدّاء، ترسمون صورةً بالقبضات العالية وشارات النصر اللّاهبةِ، وماءُ الحرية يبحث عن الظمآنين. ستقهرون الفاشيةَ والسّاديّةَ، ففي صوتكُم دماءُ الشهداءِ، وضحايا غزة وحجارتها، وصراخُ الجرحى، ونداءُ الأُمّهاتِ، وحِراكُ الميادين وأبواب المخيمات، وجرأةُ الموسيقى، وطيورُ النار.
أيها القائد الأسيرُ الحرّ، خلف الجدران! ستُشرَّع الأبواب عمّا قليل! يا ابنَ الناياتِ والشَّجنِ، يا ابنَ البدايةِ التي لا تنتهي، يا سيّدَ الأعراس، ونشيدَ المتراس، يا انفجارَ الربيعِ وعاصفةَ السنبلةِ، يا بُخارَ جراحِنا ويا خُبزَنا الجَمريّ! كأني أراك، وأنت تقبع منذ عقود في رطوبة العَزْل، تقرأ حروفَك المأنوسةَ، وسترفع النَّرجِسةَ إلى المُلصقِ، وستسعى إلى الضوءِ المُشِّعّ والكتابِ القويم، وإلى النسَغِ المخبأ في الجذور، وسترمي الماسةَ بين الرّحى، حتى يرتجَّ المعدنُ وتتوالى فيه البراكين، ليبلغَ الكَشْفَ..فمِن جُوعِك وضلعك المكسور سيبدأ يومٌ جديد. وأنتَ على صوابٍ إذ تُقدِّمُ كلَّ شىءٍ من أجل الحرية، وتُمهِّدُ لمنظرٍ ورديٍّ، للزمنِ الآتي على سواحل المدن المستباحة.
أيّها الأسيرُ البطل! يا مَن دخلتَ إلى الحياة المستحيلة، ويا مَن خافوا ضوءك، فأبقوك في القيود! يا أيقونتَنا المخبّأة مثل شمسِ غزّة في أسوار زهرة المدائن. إنّ إرادَتكم هي إرادةُ النّصر الأكيد. فإن أوغل السجّان في دمكم، وإنْ رفَضَ السجّانُ فكّ القيد عن الزنود، فهذا يؤكد مخاتلته لكلّ القوانين، وأنه ابن الغابة وليس ابن آدم! وأنه ينقلب على أيّ تفاهم، ما يؤكد استحالة السلام معه. لقد فَقَدَ صورةِ الضحيّة التي احتكرها زورا وبهتانا، لأنه الجلاد بامتياز. وليرى العالمُ جرائمَ هذا المحتلّ، حتى لا يظلّ البعض خاضعاً لابتزازه، أو مصدّقا لدعاويه الملفّقة التي تحارب كل ما هو بريء، وتحرق كل ما هو طفل وجميل، وتمنع كلَّ لقاء بين الإنسان وأخيه. فهل آن الأوان للعالم لأن يُعيد هذا القاتلَ إلى أقفاص المحاكمة، لما يقترفه من إرهاب منَظَّم، يطال الحياةَ ويلوّثُ المعايير البشرية والمواثيق الدولية.
أيُّها الأسرى الأحرار! سيشربُ قَرنُ الغزالِ من رِيقِ فولاذكم، ويطلعُ الزَّعترُ من ملحِ نارِكم، وسيأتي الفجرُ من رَنَّةِ الصحونِ الفارغةِ على رفوفِ الصدى.
إنّ شرارةَ ثباتكم الفذِّ المتواصلِ قادتكم إلى السَّرْجِ من جديدٍ، وستؤَصِّلُ لمرحلةِ الحُريّةِ المُشرعةِ، ولن تصعدوا، ثانيةً، إلى الجُلجلةِ، وسنفرشُ دربَ الآمِكم بالشقائقِ والحَبَقِ، وسترفعُ الشرفاتُ مناديلَها في زفّاتِ القمرِ الطليق.
أنتم لَحمُ الشمسِ ونبضُ البركانِ ورجّةُ الغناءِ، الذي سيلدُ البقاءَ. نقول لجلّادِكم، الذي يغتصب ويجوّع ويشقّق الشفاه عطشا وسغبا، ويدبّغ الأجساد قيداً وحرقاً، ويَسجِنُ حتى الجثثَ، في مُدنِ أسواره الجهنميّةِ وباستيلّاتِه النازيّة؛ كِلانا، أيّها المُحتلُّ يعرف الموتَ، لكنَّ واحداً منّا يعرف الحياة.. إنّه الأسيرُ، الذي لن يسمحَ لِزَمَنِكُم لأنْ يقدَّ أثوابَه السوداءَ من أعمارنا، فهو على يقينٍ بأنّ كلَّ هذه الآلامَ ستصبحُ حريةً، وإنْ اقترفتم ألفَ مذبحةٍ في اليوم والساعة.
*
ونقولُ لأبناء شعبنا الراسخين، في مدن المجزرة الهمجيّة في قطاع غزة الصابر المقاوِم، إننا ننتظر العيد الآتي من مشهد المناجزة المستحيلة. ونقول لأبناء شعبنا وأُمّتنا، ولشعوب العالم في كل مكان: إنّ هذا العُرْسَ الصوفيّ والأَلَقَ الخارقَ لا يكتمل إلا بالتحامِكم مع الحقّ والعدل والأحلام، وأنتم تشاهدون فظاعات الاحتلال الصهيوني اليومية، على امتداد فلسطين، وفي أقبية القيود المرعبة، والمذبحة ما زالت في أوجها..فلا يغرّنكم الهدوء الملغوم الكاذب! فلنقف مع غزّة حتى لا نخذلها، ومع الأسرى القادة الأبطال، حتى لا نخذل أنفسنا وقيمنا، فقد اتّسع القيدُ حتى احتلّ مساحة البلاد، في العتمات المقيّدة. عليكم أن تُعلنوا انضمامَكم إلى هذه الملحَمة الفارِقة، ما يُراكم البرق في الغيوم. ولا تتركوا خاصرةَ الأسرى مبذولةً للطعنات. ونتمنّى على العالَم ومؤسساته الحقوقية والإنسانية أن يُعيدَ للسيدة العمياء، العدالةِ، بصرَها وبصيرتَها، حتى لا يظلّ القاتلُ دون مساءلةٍ وحساب.
من غزّة وُلِدَت الكرامة، ومن المعتقلات جاءَت الحريّة، فكانتِ الأسطورةُ التي مات فيها الغولُ وغابَ السُّكوت.
قد يتعب الحديد، لكنَّ الأسرى لا يتعبون! إنهم يرسمون السماءَ ثم يهبطون بها إلى الأرض، يُرَوّضون الهواءَ المتوحّش ويحبّون الأرض، وحكمتُهم البالغةُ تقول: إنَّ ما يريده أيُّ دمٍ هو ألّا يُسْفَك، ومن الدمِ يأتي دمٌ جديد..
ستظل عيونُ مَن ظلّوا في الأسر تلتمعُ وسط الظلمةِ، سيضربون بالرّعدِ، وستتألّقُ وجوهُهم مثلَ نارٍ تتأجّج. كلماتُهم حيّة، وقد كتبوا شغفَهم على قُمصان السَّحاب، ونقشوا انتصاراتِهم على حيطانِ الهواء، فلتأخذُهم الوردةُ نُسوراً إلى الشمس، ليظلَّ مجراهُم سماوياً، ويبشّرونَنا بالخلاص، وعندها سنطلقُ الحَمامَ وندحرجُ الرّمانَ المصهورَ، وننتحبُ من عطشِ العشقِ السرمدي.
ويا أيُّها الأسير الحُرُّ الجَسور! رغم تحطيم أضلاعك وذراعيك وساقيك، فأنت الحيّ الوحيد، لأن الباقي أموات. فانهضْ من أوجاعك أيها الجبل، فالفضاء لك..وننتظرك، فنحن في عتمةٍ ثقيلةٍ مريبةٍ، خانقة.. وأنت الأمل، فاصمد..وإنا منتظرون.

