المُثَقّفُ؛ الذي أضاعَ الطفولةَ والبوصلة
الكاتب: المتوكل طه
يا لوعة الأُمِّةِ منّ المثقفين! وأستثني الكُتّاب الذين ظلّوا تحت الأنقاض وحول النار، ومع آبائهم على تلّة الوحدة النائية. فَبَدَلَ أن يُهشِّموا التَابواتِ والمتعالياتِ ومقولات نهاية العالَم والعولَمة، كرّسوا الكرسيّ تحتَ أفخاذِ السيّد الضابط وأبواقه، التي تبتشّ عندما يخرجُ النصُّ من عنادهِ، أو يستسهل الانسحابَ الآليَّ المنكسرَ أمامَ البُرعمِ المجيد.
فتوقّفْ عن ملهاتِكَ المأساة، أيها المثقف! الذي لا يرى الإبادةَ، بقدر ما يذهب لتأمّله الفلسفيّ، ويجترح عوالم الإيروتيك، وتزويق المعاصرة الفجّة، والتبرير العدميّ لصمته، وابتعاده عمّا يجري من حرائق ومذابح في أرض التين والزيتون! ويكفيك من العار أنّ الذين أدركوا سكوتَكَ الجبانَ، أمامَ ما يُمارسهُ الاحتلالُ ومَ خلفه، من صلفٍ واغتصابٍ وإبادة مصوّحة، أو ما يفعلهُ الخطيبُ المنحرفُ من نفاقٍ أو سكوت بذيء، أو ما يدبجّهُ ذو النّجومِ التّرابيةِ من مخازٍ فاسدةٍ جهاراً نهاراً..ما فتئوا أمام الوثن المُبيد، يركعون..وأنت ظلّ باهت تحت بساطيرهم الملعونة.
ويا أيّها المثقفُ! لستَ كالرّماحِ التي كانت أيامَ الفتحِ، فلن أضع هذا الكلامَ بين أياديكَ الملطّخةِ بالتّعاسةِ والعارِ والسّكوت.
ربما فَقَدتَ الجهات وأضعتَ البوصلة! ولم تفطن بأن مهمّتكَ التجاوز، والنقد المسؤول الموضوعي، وتقديم الأسئلة الثقيلة. فإن كنتَ تتغيّا الوصول الحقّ، فعليكَ أن ترى ما الذي يريده عدوّك..واعمل عكسه، فعندها ستبلغ الخلاص. أما إذا غضضتَ الطرف عن "فاوست" الذي يشملك بعباءته، أو استمرأت لعبة إرضاء "ملائكة" الجحيم، فاعلم أنك تسير نحو جهنّم، بنواياك السوداء الرخيصة. وأعجب من أن سيّد البراغماتية (ميكافيلي) يقول:"يجب أن تتوحّد إيطاليا بكافة الطرق، حتى وإن كانت غير أخلاقية، لأنّ الوحدة هي الغاية الأخلاقية العليا"..فما بالك أيها المثقف لا تُلقي بالاً لوحدة إيطاليتنا؟ وتشكّك في الساعين إلى أن تجتمع الأصابع في ذات الكفّ، من مائها لمائها؟ ولماذا لا تتسع لرأي أخيك المجتهد، الذي يمتشق رمحه أو لسانه، على رغم المقصلة المشرعة؟ أو تذهب للتشكيك، وتسطيح البذرة العبقرية، بعد أن تخرجها من شهقة طينها الساخن؟
إن الحالة أكثر عمقاً وتعقيداً مما كنا نظنّ! وإنّ الدائرة المُطبقة أكثر شراسة مما نعتقد. وإنّ الأيدي التي تعيد تركيبنا مُرابية إلى حدّ الحريق والإلغاء. ولهذا؛ لا بدّ من فضاء غير مسقوف نحفظه ليحفظنا، ولنبقى تحت مظلّة الكرمة التي أرهصت بعناقيد المقاومة المستحيلة، بكلّ معانيها الشمولية، وجمعت حولها الدنيا، التي صفّقت لنا، واعترفت بأرجوان دمنا؟
فلا يغترّ راءٍ، بأيّ معلّقةٍ أو مقولات مُقطّرة، مهما سطعت وأشرقت. ولا يردّد فمٌ أيَّ نشيد، قبل أن يسبر غور المؤلّف والملحّن والبادئ بالغناء. إن هذا لا يعني تبريراً لخروج الحروف عن دلالاتها. فلا مرافعة تجيز كلّ هذا التقاطب والسفْك المعنويّ والمجازر اللغوية، التي تترى في كلّ جغرافيا وفضائية وموقع إخباري، لتقضي على وجيبٍ أثقله النجيع.
وإن المتسيّد، الغارب أو المشطوب، ليس ابن إله مصفّى، بل لعنة مكثفة، أو أخطبوط مجنون، أخرج الجغرافيا وما فيها وراء الزمان والمكان، وترك الناس على حبل المشنقة يتلمّظون بالنزيف، على جوعٍ وظمأ ومذلّة ومرض وانكسار. وهو ذريعة الخراب لأنه الناطق الصامت بأمر أسياده، وهو الذي دعاهم الى وليمة المقدّرات، وكانت أمُّه الذبيحةَ الطازجة.
سأسكتُ، علانيةً، احتجاجاً عليك..غير أنني أرى، وأحذّرك؛ بأن العالَم لن يستمع، ثانيةً، للصيحات، لأنه ما زال منافقا، متآمرا على الضحايا والهلال. فلا علّي، ولا على المثقفين الآخرين، فكّلنا يتسلّى في حُلْمه وصحوته بطريقته الخاصة، وقد ندرك جميعنا الرُعب الكامن في حفنة من تراب أو ثقل صلصال الحنين في الضلوع، وكُلّنا يحاول ترتيب الدوائر مِن حوله، بطريقة تضمن له الضوء والخبز. ولكن جميعنا ينسى أنها دوائر من ماء..وأنّ حجراً صغيراً تلقيه طفلة ذات ضفائر، في غاية البراءة والفتوّة، يستطيع أن يحرّك بحر الدوائر في الأرض والرأس وما بينهما.
وبعد قليلٍ سيكون الزّيتُ وحيداً على شَجره؛ خائفاً مثل أصحابه المرُهقين،
وتضيقُ الأكنافُ بِمَنْ فيها، وتبلغُ القلوبُ المشانق. والمفاجاة؛ أننا مثلك، صرنا صامتين، رهباً وطمعا..
ولهذا؛ سيظلّ اليأسُ قهوتَنا الباردةَ، أياماً وشهوراً أخرى..ووحدنا مع قشعريرةِ الكآبةِ. وسيعود المثقف يلثغ بغبار مُغثٍ، فتتقشّر شفتاه يباساً، وتُعشي عيونه حُبيبات دقيقة هائشة طائشة تتفشّى. ونوافذ الهيولا تُنبئ بذرّات تتطاير، فتحتشد وتتقافز، على غير هدى، كأنها مضطربة تبحث عن لامكان. ويلثغ بالرماد، فتحمرّ جفونه وتتمزّع جلدة وجهه، وتتّخذ الأخاديد الشُّعيرية طريقها، كيفما اتفق، على طلّته، من جبينه إلى صدغيه، فخديْه، فذقنه! ويلثغ بالرمل المذرور الأبيض الرمادي، المطحون المنفوخ الباحث عمّا يعلق به، خفيفاً هائماً مقذوفاً من غموض إلى هُوٍّ مُشْرع للفراغ اللامحدود.
كان يلثغ بالحليب المتقاطر الدافئ العسلي السلس العذب، يستسيغه وتمتلئ عروقه به، فتتغشّاه السخونة الماتعة والرضا والاطمئنان. وكان يلثغ بالماء السلسبيل البارد الهانئ الرقراق، فيمتلئ فمه بالرطوبة والانطلاق، ويدبّ النّحل النائم شيئاً فشيئاً في ضلوعه، فتمرع خلاياه بالعشب الريّان والزّهر. أما الآن، فقد أضاع الطفولةَ والبوصلة. ومن المحيط إلى الخليج إلى الثلوج..نراه يواصل خطابه الرديء الغامض المكشوف، المبتهج بالثقافة السائدة؛ ثقافة القتل والتفاهة، ليحصل على جائزة خائبة، لن تصله، مهما تعرّى، أو شتم الصحابة وأبناءهم، والأصالة التي يكرهها أو يجهلها.
لقد عاد هذا المثقفُ إلى ما قبل الفطام، فلم يجد ثدياً، فَناغى ماء السراب! إذ لا قطرة تبلّ توهّج لسانه الناشف..وألحف بالبكاء الحداثيّ.. لقد عاد إلى هذا المشهد المتحطّم، إذ لا لغة ينطق بها ليفهمها هؤلاء، الذين احدودبوا أو انكسروا، ولم يتبق في أفواههم حروف أو لغات، ولم يعد لآذانهم مسارب تحمل همهمات الأرصفة، والعراة أو صرخاتهم أو نداءاتهم.
لهذا؛ عاد ليلثغ بحرف واحد أو اثنين، كانا كافيين ليأكل ويشرب وينام، مطمئناً، تحفّه الأغاني المزيّفة، وكركرة السهرات الموبوءة، واللمّات المُلفّقة، والصفحات الحرباء.
والآن؛ ما زال يلثغ مجاهراً بالكُفر البواح، يمضغ حروفه؛ يجتزيء، وينتقي، ويحوّر..ويجترّها كالنعجة أو الناقة، بشاله المتحرّر! وكلّه يقين بلا جدوى الكلام، أو حتى أن يفتح فمه لشيء، غير أن يحشوه ببعض نياشين ودولارات، مغمّسة بالقطران والفجائع، لبدنه المسموم.
والعزاء للصوفيّه وأهلها الأنقياء المخلَصين، الذين أيقنوا أن للحرف قوةً كافية لتدير الجبال، وتقلب الصحارى، لتمرع بالأنهار، وتفتح أبواب السماء لليلهم الطاهر المضيء، ليظلّ الكَشْف سُكَّر الصلاة، وعطر الغياب الشفيف.

