العمال والبطالة في فلسطين: أرقام قاسية وقرارات غائبة
الكاتب: د. سناء تيسير أبوشنب
منذ اندلاع الحرب الهمجية على قطاع غزة في أكتوبر 2023، لم تعد البطالة في فلسطين مجرد مؤشر اقتصادي، بل عنوان لأزمة وطنية شاملة تهدد حاضر ومستقبل الاقتصاد الفلسطيني، فوفق تقديرات دولية حديثة، بلغ معدل البطالة في فلسطين عام 2024 نحو 51%، مع قفزة غير مسبوقة في قطاع غزة وصلت إلى ما يقارب80% مقابل 35% في الضفة الغربية. خلف هذه الأرقام تقف مئات آلاف القصص لعاطلين عن العمل، وأسر تعاني من الفقر المدقع، وعمال فقدوا تصاريح عملهم داخل الخط الأخضر، وشباب يدفعهم الواقع إلى الهجرة والمخاطرة بمستقبلهم بحثاً عن لقمة العيش.
أولاً: خريطة البطالة في فلسطين
في الضفة الغربية، تحمل المرحلة عنوان "وظائف تضيع واقتصاد يضيق"، فبعد أن سجلت الضفة الغربية معدلات بطالة بحدود 13% عام 2022، سجل تقرير للأمم المتحدة فقدان حوالي 306آلاف وظيفة في الضفة الغربية خلال أقل من عام من الحرب على قطاع غزة، مما أدى لارتفاع البطالة إلى حوالي 32%.
وفي قطاع غزة تحولت البطالة المزمنة إلى انهيار شبه كامل ففي المنظومة الاقتصادية ارتفعت نسبة البطالة من 50% قبل الحرب إلى ما يقارب 80% خلال العام الحالي، وهو ما يترجم إلى تحول تراجع دخل الأسر وغياب فرص العمل، إلى اعتماد غالبية الأسر على المساعدات الغذائية النقدية الطارئة، وهو ما ذكره تقرير البنك الدولي الذي أشار إلى أن ما يقارب 100% من سكان غزة يعيشون في الفقر مع تزايد مؤشرات انعدام الأمن الغذائي الحاد.
تبدو القدس "أفضل حالاً من الناحية النظرية"، ففي عام 2022 سحل الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أدنى معدل بطالة في محافظة القدس بنحو 3%. لكن هذه النسبة تخفي واقعاً مركباً فنسبة كبيرة من المقدسيين يعملون في سوق العمل الإسرائيلي ويفتقرون إلى الحماية الوظيفية والاجتماعية، ويدفعون ضريبة المعادلة والتي تكافئ بين العامل الفلسطيني والعامل الإسرائيلي في الدفع وتحرمه من مزايا التأمين الاجتماعي.
ثانيًا: العمال داخل الخط الأخضر… شريان دخل مقطوع
لعقود، كان العمل داخل الخط الأخضر “رئة اقتصادية” لعشرات آلاف الأسر الفلسطينية، بحكم ارتفاع الأجور مقارنة بالسوق المحلي، حيث قدّر البنك الدولي والجهاز المركزي للإحصاء عدد الفلسطينيين العاملين في إسرائيل والمستوطنات بنحو 170–180 ألف عامل قبل الحرب على قطاع غزة، و منذ اليوم الأول للحرب على قطاع غزة، ألغت إسرائيل آلاف التصاريح وأغلقت المعابر ضمن سياستها الممنهجة في تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي واستخدام لقمة العيش كأداة ضغط سياسية، ووفق بيان للجهاز المركزي للإحصاء في نيسان 2025، انخفض عدد العاملين من الضفة الغربية المحتلة داخل الخط الأخضر من حوالي 107 آلاف في 2023 ،إلى نحو 21 ألفًا فقط في 2024، واشار تقرير آخر للبنك الدولي إلى أن العمالة الفلسطينية داخل الخط الأخضر تراجعت بنسبة 86% خلال العام 2024.
هذه الصدمة جعلت مئات آلاف العمال الذين يعيلون أسراً كاملة – يفقدون مصدر دخلهم شبه الوحيد خلال أشهر قليلة، دون أن تتمكّن برامج الحماية من وضع خطة طوارئ توفر لهؤلاء العمال الحد الأدنى للأجور وتمكن السوق المحلية من امتصاص هذه الصدمة.
ثالثًا: الفقر والأسر الهشّة… من خط الفقر إلى الفقر المدقع
قدر تقرير للبنك الدولي في مايو 2024 أن معدل الفقر في فلسطين بلغ 32.8% منتصف 2023، مع 64% تقريبًا في قطاع غزة و12% في الضفة الغربية المحتلة.
لكن بعد الحرب، تتحدّث تقديرات الأمم المتحدة (الإسكوا) عن ارتفاع في الفقر يصل إلى نحو 74% من السكان في 2024، أي أكثر من 4 ملايين شخص سيعانون من البطالة، مع ارتفاع الفقر في الضفة الغربية أيضًا بسبب الإغلاقات اليومية والاجتياحات وتراجع وفقدان الدخل.
هذا يعني أن القضية لم تعد مرتبطة بالفقراء التقليديين، بل دخلت شرائح واسعة من الطبقة الوسطى في دائرة الفقر المؤقت أو المزمن: موظفون فقدوا وظائفهم، وتجار خسروا نشاطهم، أو تكبدوا خسائر فادحة، وعمال لم تعد تصاريحهم سارية المفعول.
رابعًا: وزارة العمل… برامج تشغيل لكنها لا تغيّر المعادلة
في مكاتب مديريات العمل في مدن الضفة الغربية المحتلة، يتزاحم خريجون جامعيون وحملة دبلوم ومهنيون على إعلانات التشغيل المؤقت والتي لا تتجاوز مدتها بضعة أشهر. في الوقت نفسه، تعلن وزارة العمل بين حين وآخر عن مشاريع تشغيل مدعومة، أو برامج تدريب مهني، أو دعم لمشاريع صغيرة عبر صندوق التشغيل الفلسطيني، ويبقى السؤال: إذا كانت البرامج موجودة، فلماذا تواصل البطالة الارتفاع؟ ترجح البيانات أن المشكلة ليست في غياب الجهد، بل في طبيعة هذا الجهد واستثماره بالطريقة الهادفة. حيث أن التعامل مع هذه المشاريع غالباً ما يخضع لشروط الممولين، وليس لحاجة المؤسسات الفلسطينية حيث تتمثل في: مشاريع متفرّقة، مرتبطة غالبًا بتمويل مانحين، تبدأ وتنتهي مع دورة التمويل، وترتكزعلى التشغيل المؤقت، دون ضمان لاستمرار العامل في سوق العمل بعد انتهاء المشروع، وغياب سياسة تشغيل وطنية موحَّدة تربط بين التعليم، والتدريب، والقطاع الخاص، والحماية الاجتماعية.
من زاوية بحثية، تظهر مراجعة التقارير الرسمية لوزارة العمل وصندوق التشغيل اعترافًا بأهمية دعم المشاريع الصغيرة والريادة والتدريب المهني، لكن تأثير هذه البرامج يبقى محدودًا قياسًا بحجم الفجوة بين العرض والطلب: فمئات آلاف العاطلين مقابل آلاف الفرص المؤقتة. عمليًا، يتحوّل الجزء الأكبر من مشاريع التشغيل إلى مسكّنات قصيرة الأجل لا تمسّ بنية البطالة ولا تعيد هيكلة الاقتصاد.
خامسًا: وزارة التنمية الاجتماعية… بين إدارة الفقر والخروج منه
في الجهة الأخرى من المشهد، تتعامل وزارة التنمية الاجتماعية مع نتائج البطالة في صورة أسر فقيرة وهشّة. يشكّل البرنامج الوطني للتحويلات النقدية الذي تديره الوزارة العمود الفقري لشبكة الحماية الاجتماعية في فلسطين؛ إذ يقدّم تحويلات نقدية دورية للأسر الأشد فقرًا، إضافة إلى مزايا مثل التأمين الصحي وبعض الإعفاءات.
يغطّي البرنامج الوطني للتحويلات النقدية ما يقارب 115 ألف أسرة فقيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة وفقاً لتقرير البنك الدولي (2024)، بتمويل يقارب 1% من الناتج المحلي، مع مساهمة كبيرة من الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، لكن مع فجوة تمويلية دائمة تحدّ من قدرة الحكومة على التوسّع، وتنبثق القوّة الحقيقية للبرنامج من أنه يمنع الانهيار الكامل لآلاف الأسر، لكن محدوديته تظهر في ثلاث نقاط أساسية:
•قيمة الدفعات: المبالغ الشهرية (ما بين 250–600 شيكل تقريبًا حسب المكوّن) لا تكفي لمواجهة الغلاء، ولا تقترب من مستوى خط الأجر الأدنى.
•نطاق التغطية: البرنامج يستهدف الفقر الأشد، ما يترك شريحة واسعة من الأسر الفقيرة ” خارج المظلّة، رغم تدهور أوضاعها بعد الحرب.
•غياب مسار للخروج من الفقر: تتحوّل الأسر عمليًا إلى “مستفيد دائم” ينتظر الدفعة القادمة، دون دمج منظم في برامج تشغيل أو تمكين اقتصادي.
أشارت دراسات تقييمية للبرنامج إلى أن التحويلات النقدية تخفّف شدة الفقر لكنها لا تمكن الأسر من الخروج منه؛ إذ تغطي في كثير من الحالات أقل من 30–40% من فجوة الفقر لدى الأسر الأشد احتياجًا.
حلول مبتكرة… تصطدم بسقف السياسة
تؤكد تقارير البنك الدولي والإسكوا أن تدهور الاقتصاد الفلسطيني ليس فقط نتيجة “ضعف السياسات الداخلية”، بل نتيجة مباشرة لممارسات الاحتلال ومحاولاته الدائمة لتشويه هيكل الاقتصاد الفلسطيني، ورغم قتامة الصورة، هناك مساحات واقعية لتقليل البطالة والفقر، من خلال:
-إعادة توجيه برامج التشغيل نحو قطاعات منتِجة مثل: الزراعة المحمية والمجتمعية في المناطق المهددة بالضم، الطاقة المتجددة، التصنيع الغذائي، والاقتصاد الأخضر.
-توسيع فرص العمل عن بُعد عبر الاستثمار في المهارات الرقمية كالبرمجة، الدعم الفني، التسويق الإلكتروني، وربط الشباب بمنصّات العمل العالمية لكسر قيود الجغرافيا.
- إنشاء نظام حماية اجتماعية، ينتقل من فكرة “إدارة الفقر” إلى “تفكيك الفقر” عبر التمكين الاقتصادي.
-دمج فعلي بين وزارة العمل والتنمية الاجتماعية في “مسار واحد للأسرة”: من التحويل النقدي إلى التدريب إلى التشغيل.
-تجديد الحياة الديمقراطية بانتخابات ومجلس تشريعي فاعل ومشاركة حقيقية للشباب، يضع الفقير والعامل والعاطل في قلب النقاش السياسي، لا في هامشه.
عندها فقط يمكن أن تتحوّل قصص العمال والبطالة والفقر في فلسطين من ملف يُقرأ في التقارير، إلى مشروع تحوّل حقيقي، يكتب فيه الشباب والعمال والأسر الفقيرة مستقبلهم بأيديهم، بدل أن تبقى حياتهم معلّقة بين تصريح عمل، أو حوالة نقدية، أو قرار سياسي مؤجَّل.
د.سناء أبو شنب/الشرافي، تعمل في مجال الحماية الاجتماعية وإدارة الموارد البشرية، حاصلة على درجة الدكتوراه في إدارة الأعمال – تخصص الحماية الاجتماعية وقوانين العمل، وتشغل منصب رئيس الموارد البشرية في مجموعة مستشفيات العربي في فلسطين. تمتلك خبرة تزيد على خمسة عشر عامًا في الإدارة الاستراتيجية للموارد البشرية، وتخطيط القوى العاملة، والتحول الرقمي في القطاعين الصحي والخاص .

