حين تتحوّل الأرقام إلى عبء على الروح: دعوة إلى قراءة وطنية متوازنة لاستطلاعات الرأي
الكاتب: د.ياسر أبوبكر
لم تعد استطلاعات الرأي مجرد أدوات قياس محايدة، بل أصبحت جزءًا من المشهد السياسي والنفسي الذي يعيشه الفلسطينيون يوميًا. ومع أنّ لهذه الاستطلاعات أهميتها في قراءة اتجاهات الرأي العام ورصد المتغيرات والمخاوف والآمال، إلا أنها - وككل أداة تُستخدم في زمن هشّ - قد تتحوّل دون قصد إلى عامل إحباط، وإلى مرآة تُضخّم القلق وتُعيد إنتاج التشاؤم، بدل أن تُسهم في بناء وعي وطني قادر على النهوض.
أنا لا أدعو لوقف الاستطلاعات ولا لمنعها، فهي جزء من أدوات المعرفة الحديثة، لكنها تحتاج إلى سياج أخلاقي ووطني حتى لا تتحول إلى صناعة للخوف أو إلى ترميزٍ دائم لعجزٍ سياسي مؤقت. فالمجتمع الذي يرزح تحت الحرب والحصار والمجازر والانقسام، لا يحتاج لمن يُخبره كل شهر بأنه غاضب أو محبط أو فاقد الثقة، فهو يعرف ذلك جيدًا. ما يحتاجه هو من يقول له أيضًا إن هذا الغضب يمكن أن يتحول إلى طاقة تغيير، وإن هذا الإحباط يمكن أن يُعاد صياغته كدافع للنهوض، وإن اليأس ليس قدرًا بل نتيجة ظرف، وإنّ الشعوب التي لا تُقاس فقط بوجعها، بل بقدرتها على إعادة إنتاج الأمل.
حين ننظر إلى نتائج الاستطلاعات المتلاحقة، نرى صورة واضحة تتكرر: الفلسطيني مرهق، فاقد الثقة بقيادته، محاصر بجدار من الدم والرماد، لكنه في الوقت نفسه متمسك بحقّه، وبمقاومته، وبأرضه، وبقدرته على الصمود. المشكلة ليست في الأرقام، بل في الطريقة التي تُقدّم بها هذه الأرقام؛ طريقة تُركّز فقط على حجم الألم، ولا تُضيء قدرة المجتمع على النجاة. طريقة تُغذّي رواية العدو القائلة إن الفلسطيني يريد الاستسلام، بينما تُخفي ما تؤكده نفس الاستطلاعات من أن الفلسطيني - رغم الجوع والدمار - ما زال يرفض الخضوع، ويرفض التخلي عن الثورة ، ويرفض كل مشروع يقتلع حقه أو يشطب وجوده.
هذه التناقضات ليست دليل ضعف، بل دليل إنسانية. فمن الطبيعي أن يرتفع القلق في غزة بعد سنوات من الحرب، وأن يزداد الغضب في الضفة تحت سطوة المستوطنين، لكن غير الطبيعي أن يُقال للفلسطيني إن هذا هو “جوهره”.
جوهر الفلسطيني لم يكن يومًا في الألم، بل في قدرته على رفع رأسه من بين الركام. ولعلّ أهم ما يجب أن يصاحب نشر نتائج الاستطلاعات هو خطاب وطني يوازن بين نقل الواقع وبين تعزيز القدرة على مواجهته.
نحن بحاجة إلى أن نرفق كل استطلاع بأدوات تعيد الروح، لا بأرقام تزيد الإنهاك.
بحاجة إلى أن نُظهر لاختلافات الرأي أنها قوة، وأن تعدد التوجهات السياسية ليس علامة تفكك بل علامة حياة.
بحاجة إلى أن نقول للناس: نعم، هناك أزمة قيادة، لكن هناك أيضًا شعب واعٍ يعرف ما يريد.
نعم، هناك حرب مستمرة، لكن هناك أيضًا إرادة لا تنكسر.
نعم، الأرقام قاسية، لكنها ليست قدرًا، وأفراد هذا الشعب أثبتوا أنهم قادرون على صناعة معادلات ليست موجودة في أي استطلاع.
الأمم تُبنى عبر روايتين: رواية تشخّص الواقع، ورواية تفتح أبواب الأمل.
استطلاعات الرأي تُحسن تشخيص الواقع، لكنها لا تصنع الأمل.
وصنّاع الإعلام، وصنّاع السياسة، والكتّاب، والمعلمون، وحتى المواطن العادي، عليهم مهمة مكمّلة:
أن يُعيدوا الاعتبار للرواية الوطنية، للصدور التي تقاوم، للعيون التي لا تزال ترى رغم كل شيء، ولقدرة هذا الشعب الذي عاش نكبة ومجازر وتهجيرًا وحصارًا، ثم نهض من جديد وكأنه وُلِد ليقف.
الأمل ليس تجميلًا، بل ضرورة وطنية.
والوعي ليس مجرد انعكاس للأرقام، بل قدرة على قراءة ما وراء الأرقام.
وإذا كان من حق الفلسطيني أن يعرف اتجاهات الرأي، فمن حقه أيضًا أن يسمع من يذكّره بأنه - رغم ما تقوله الإحصاءات -ما زال أقوى من كل ما يُراد له أن يؤمن به.
لا نحتاج إلى إسكات الاستطلاعات، بل إلى إسكات اليأس الذي قد تُنتجه الاستطلاعات إن تُركت بلا سياق.
ولا نحتاج إلى تزييف الأرقام، بل إلى تكميلها بسردية وطنية تليق بشعبٍ يقف على حافة النار ولا يتراجع.
هكذا فقط نستخدم الأرقام لبناء الوعي، لا لهدم الروح.
وهكذا فقط نصنع رأيًا عامًا لا يُستدرج إلى الإحباط، بل يتجه إلى العمل، ويؤمن بأن الطريق - مهما طال - لا تزال تقود إلى وطن.

