الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:46 AM
الظهر 11:25 AM
العصر 2:18 PM
المغرب 4:44 PM
العشاء 6:02 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

كايروس فلسطين الثانية:صوت المسيحيين الفلسطينيين في لحظة الحقيقة والإيمان في زمن الإبادة

الكاتب: عمر رحال

شكل الوجود المسيحي في فلسطين أحد أبرز الملامح الحضارية والثقافية التي رافقت تشكل الهوية الوطنية الفلسطينية عبر قرون طويلة. فالمسيحيون الفلسطينيون، أبناء هذه الأرض منذ القرون الأولى للميلاد، ليسوا جماعة طارئة ولا أقلية وافدة، بل هم جذور ضاربة في عمق التاريخ الفلسطيني، يتقاطع مصيرهم مع مصير الوطن، وتشهد لهم الأرض والكنائس والأديرة والقرى والمدن التي حملت حضورهم وذاكرتهم الممتدة. فقبل الإسلام والمسيحية بكثير، كانت فلسطين موطناً للحضارات، وجاء المسيحيون جزءاً من هذا الامتداد التاريخي الذي جعل من فلسطين فضاءً للرسالات واللغات والثقافات. وفي هذا السياق، لم يُنظَر ولم يَنظْر المسيحيون الفلسطينيون إلى أنفسهم يوماً بوصفهم جماعة منفصلة، بل كجزء أصيل من الشعب الفلسطيني، يشكلون مع المسلمين نسيجاً واحداً في مواجهة الاستعمار، ويتشاركون العادات واللغة والتاريخ والهموم الوطنية.

إن المسيحيين الفلسطينيين ليسوا مجرد جزء من النسيج الفلسطيني، بل هم أحد أعمدته الأقوى، وصوت من أصواته الوطنية والأخلاقية الأكثر رسوخاً في مواجهة الظلم. ومن خلال مواقفهم وشهاداتهم ونضالهم، يقدمون للعالم نموذجاً لفلسطين التي تريد أن تعيش،فلسطين الحرة، المتنوعة، الراسخة في تاريخها والممتدة نحو مستقبل يليق بكرامة الإنسان. وحين يقول المسيحيون الفلسطينيون إن معركتهم هي "معركة حياة في مواجهة الإبادة"، فنحن أمام شهادة لا تعبر عن جماعة دينية، بل عن شعب كامل. شهادة تختصر جوهر العدالة، ومعنى الوطنية، وروح فلسطين الحقيقية التي لا يمكن طمسها أو اقتلاعها، مهما طال الاحتلال ومهما اشتد الظلم.

وعلى هذا النحو شكل المسيحيون الفلسطينيون منذ بدايات القرن العشرين ركيزة أساسية في الحركة الوطنية الفلسطينية. فالمدن التي احتضنتهم القدس، بيت لحم، الناصرة، بيت جالا، رام الله ، يافا ، اللد ،والرملة، بيرزيت ، بيت ساحور ، حيفا ، فقد لعب فيها المسيحيون دوراً محورياً في نشر الوعي الوطني. كما كانت الصحافة الفلسطينية، التي ساهم المسيحيون في تأسيسها وإدارتها، من أهم أدوات التعبئة الوطنية، وفي فضح سياسات الانتداب البريطاني، وكشف الممارسات الصهيونية، وتشكيل رأي عام فلسطيني مقاوم. ومع انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة بعد العام 1965، كان للمسيحيين حضور واضح في تشكيل الحركة الوطنية الفلسطينية. وقدم المسيحيون نماذج فذة للمقاومة الكفاحية والسياسية والثقافية، كما أسهم مفكرون مسيحيون في بلورة الوعي السياسي الفلسطيني، كل من موقعه الفكري والتنظيمي. ولا يمكن الإغفال عن الدور الاجتماعي والثقافي الذي لعبته المؤسسات المسيحية في فلسطين. فالمدارس التابعة للكنائس المختلفة شكلت عبر قرن ويزيد منصات تعليمية رائدة خرّجت أجيالاً من الفلسطينيين، وكانت الحاضنة الأولى للنقاشات السياسية في فترة الانتداب وما بعد النكبة. أما الجامعات والمؤسسات الصحية المسيحية، فقد لعبت دوراً اجتماعياً وإنسانياً وطنياً، خصوصاً خلال الانتفاضتين، وفي فترات الحصار والعدوان المتكرر على غزة. وما يميز المسيحيين الفلسطينيين هو أنهم قاوموا الاحتلال لا من منطلقات دينية بل من موقع المواطنة والانتماء الوطني، رافضين كل محاولات الفصل الطائفي التي حاول الاحتلال فرضها. فإسرائيل حاولت مراراً خلق انقسامات داخل المجتمع الفلسطيني، لكنها فشلت أمام إصرارهم على أنهم فلسطينيون فقط.

إن الحضور المسيحي في المشهد السياسي الفلسطيني ليس حضوراً رمزياً، بل حضوراً فعلياً ومؤثراً، كما أن الكنائس والمؤسسات المسيحية بقيت مراكز للصمود، حيث يواجه المسيحيون اعتداءات المستوطنين، ومصادرة الممتلكات، وحملات التحريض العنصري. إن الحديث عن المسيحيين الفلسطينيين هو حديث عن فكرة الوطن نفسه، عن ذلك الفضاء الذي يتسع لكل أبنائه، والذي تتجسد فيه وحدة الأرض والهوية والمصير. فالمسيحيون الفلسطينيون، بتراثهم وإيمانهم ونضالهم، شكّلوا جزءًا من "الرواية الكبرى" لفلسطين، تلك الرواية التي ترفض أن تكتب بمنظور ديني ضيق، أو بمنطق المستعمِر الذي يحاول اختزال فلسطين في صراع ديني. ففلسطين، بتنوعها، ترفض هذا الاختزال، والمسيحيون الفلسطينيون يشكلون أحد أدلة هذا الرفض، وأحد أعمدة الهوية التعددية التي ميزت الحركة الوطنية الفلسطينية منذ نشأتها.

المبادرة المسيحية الفلسطينية  كايروس فلسطين، هي عبارة عن جهد مسكوني فلسطيني يسعى إلى التعبير عن صوت الكنيسة المسيحية في فلسطين ، حيث تأسست المبادرة في العام 2009 وأصدرت أول وثيقة كايروس فلسطين كدعوة عالمية للتضامن مع الشعب الفلسطيني ومواجهة الظلم والاحتلال، ويوم الجمعة الماضي أطلقت الكنائس وثيقة كايروس الثانية من بيت لحم تحت عنوان "الإيمان في زمن الإبادة" .وذلك في ختام أعمال المؤتمر الدولي السادس عشر الذي عقدته المبادرة المسيحية في مدينة بيت لحم.

تكتسب وثيقة كايروس الثانية أهمية استثنائية من حيث مضمونها وتوقيتها، فهي تأتي في لحظة تاريخية تعد من أكثر اللحظات مأساوية وقسوة في التاريخ الحديث للشعب الفلسطيني، وفي زمن تشهد فيه قطاع غزة والضفة الغربية والقدس ما يصفه قادة الكنائس الفلسطينيون بـ"الإبادة الجماعية" وسياسات الاقتلاع والتهجير الممنهج. إن صدور الوثيقة اليوم لا يشكل مجرد تحديث لبيان لاهوتي صدر عام 2009، بل يمثل إعلان موقف وطني وأخلاقي وسياسي وديني جديد يعبر عن موقف المسيحيين الفلسطينيين بشكل لا يقبل التأويل. فالوثيقة تأتي لتؤكد أن الإيمان المسيحي الفلسطيني ليس إيماناً منزوياً أو محايداً أمام الظلم، بل هو إيمان مقاوم، يرى في العدالة جزءًا من جوهر العقيدة، وفي الدفاع عن المظلومين واجباً إنسانياً وروحياً في آن واحد. وتزداد أهمية الوثيقة لأنها تصدر في لحظة تتعرض فيها الرواية الفلسطينية لعملية تشويه غير مسبوقة، وسط حملات سياسية وإعلامية عالمية تحاول شرعنة ما ترتكبه إسرائيل من انتهاكات.

 إن الوثيقة في توقيتها هذا تمثل أداة مقاومة وطنية وأخلاقية وروحية، وصرخة فلسطينية أصيلة تكسر صمت العالم المسيحي الدولي، وتطالب الكنائس العالمية بموقف واضح وصريح من الاحتلال والاستيطان والحصار وسياسات العقاب الجماعي. وهي بذلك تؤكد على الموقف التاريخي للمسيحيين الفلسطينيين بأنهم دائماً كانوا في مركز الخطاب كأصحاب رواية وهوية وجذور، لا كمجتمع أقلّي يحتاج حماية، بل كشركاء كاملين في النضال الوطني. كما أن الوثيقة الجديدة تحمل أهمية مضاعفة كونها تتزامن مع تراجع دور المؤسسات الدولية وعجزها عن وقف العدوان، الأمر الذي يدفع بالمؤسسات والمرجعيات الدينية الفلسطينية لتأخذ دوراً أكثر تقدماً في الدفاع عن الحقوق الإنسانية لشعبها. فالوثيقة ليست بياناً وجدانياً، بل وثيقة سياسية بعمقها اللاهوتي، توجه خطاباً مباشراً للعالم المسيحي وتطالبه بتحمل مسؤولياته الأخلاقية في مواجهة الظلم. بهذا المعنى، فإن توقيتها يشكل إضافة نوعية أخرى في الخطاب المسيحي الفلسطيني ، والذي يربط بين الإيمان والعدالة والتحرر.

إن أهمية الوثيقة الجديدة تتجسد كذلك في أنها تعيد التأكيد- في سياق الحصار والدمار وفقدان الأمان-على وحدة الفلسطينيين مسيحيين ومسلمين في مواجهة الاحتلال، وتقدم نموذجاً للثبات والصمود الروحي والإنساني. فهي تذكير بأن المسيحية الفلسطينية ليست رواية ثانوية أو حيادية، بل رواية مقاومة، وأن الكنائس الفلسطينية ليست مراقباً للأحداث، بل شاهدة على الدم الفلسطيني، ومنحازة له لأنه "دم المظلوم" الذي يقف معه الإيمان الحق، كما تقول الوثيقة نفسها. بهذا كله، تصبح وثيقة كايروس الجديدة وثيقة زمن استثنائي، ورمزاً لشهادة فلسطينية لا تنطق فقط باسم المسيحيين، بل باسم شعب كامل يبحث عن العدالة والحرية والكرامة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...