فدرلة بلاد الشام
الكاتب: د. أحمد رفيق عوض
تتميز الحلول الأمريكية عادة بما يلي: تقسيم البلاد، تشكيل حكومات مرتبطة، اتفاق سياسي غامض يفتح المجال للاشتباك من جديد، نهب ثروات البلد تحت مسمى اتفاقيات ومعاهدات، وجود أمريكي ما يضمن المصالح، محاولة تطويع الوعي وخلق نخب مطيعة، التهديد الدائم بالقوة، هذه الحلول رأيناها تتكرر في كل من الصومال والعراق وأفغانستان وأماكن أخرى، الحلول الأمريكية لا تهدف إلى إنهاء الصراع، بل الاستفادة منه، ولا تهدف إلى الاستقرار بقدر رغبتها في تحويل الصراع إلى فرصة أخرى للهيمنة والنفوذ والربح.
يمكن القول إن الولايات المتحدة فشلت في تحقيق السلام، ولكنها نجحت في إنجاز التسويات، وهي تسويات عادة ما تكون ملغمة وملفقة ومفروضة بالقوة والتهديد، ولذلك فهي تسويات غير مضمونة وتسمح دائماً بتدخل سافر، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تدعي أو تتذرع بحقوق الإنسان، إلا أنها عادة ما تتحالف مع القوى التي لا تشاطرها الرؤية، فالرغبة بالربح والهيمنة أهم من أية شعارات.
أقول ذلك كله بمناسبة المحاولات الأمريكية "لإقناع" إسرائيل بقبول خطة وقف إطلاق النار في غزة وعدم إفراغها من محتوياتها، والتلويح الأمريكي والإسرائيلي بدراسة بدائل أخرى في حال فشل المشروع الذي تقدمت به الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن للمصادقة على تشكيل قوة الاستقرار في قطاع غزة ووضعها تحت الوصاية أو الانتداب لمدة سنتين على الأقل.
الوجود الأمريكي في إسرائيل ومحاولة إعطاء الانطباع أن هناك زخماً أمريكياً متواصلاً لتثبيت وقف إطلاق النار وصولاً إلى نزع سلاح حماس وبدء عملية الإعمار وانتهاءً بانسحابات إسرائيلية متدرجة مرتبطة بمدى التقدم بنزع سلاح حماس، كل ذلك يثير مخاطر عديدة قد تقود إلى "الخطة البارعة" التي تفضلها كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، أقصد بها الفدرلة، والفدرلة باختصار تقسيم البلاد على أسس طائفية أو عرقية أو أثنية أو جهوية أو تحت أي مسمى قد يكون نافعاً في حينه، الفدرلة هي تفكيك للدولة وللمجتمع تحت شعارات قد تبدو براقة وجذابة، مثل المرونة والفعالية والنجاعة وتقليل الاحتكاك وتوزيع الثروات والحكم الرشيد والسلم الأهلي، ولكن هذه الشعارات تخفي تحتها إضعاف الدولة وغياب القرار الموحد وتبهيت الهوية الجامعة وسهولة التحكم والتدخل والتفجير وسهولة الاستغلال والنهب أيضاً.
وقد رأينا كيف تم تقسيم الصومال والسودان والعراق فيدرالياً وسياسياً بما يخدم الأهداف الاستعمارية أولاً وأخيراً، وقد تم ذلك بالقوة العسكرية والإغراء والاحتواء والتفجير والتفكيك، أي أن هذا التقسيم لم يتم اختيارياً على الرغم من عمليات الانتخاب والتخفي بالشكليات الديموقراطية، وهي السيناريوهات الخادعة التي يفضلها الاستعماري لإنجاح مشروعه والوصول إلى أهدافه.
وما حصل في تلك البلدان قد يحصل الآن في بلاد الشام أيضاً، فالفدرلة بمعنى التقسيم الطائفي أو الجغرافي أو العشائري، مشروع يمكن تلمّسه منذ الآن، فما يجري في لبنان من ضغط أمريكي وإسرائيلي لدفعه إلى حرب أهلية يترافق مع محاولات حثيثة لإغراء النظام السوري الجديد بالقبول بوضع فيدرالي يقوم على الطائفية والأثنية الثقافية ينسجم مع التغييرات المرتقبة في لبنان، أما في بلادنا فإن تقسيم غزة بالخط الأصفر وفصل الضفة عن القطاع وتغييب القدس المحتلة عن أية حلول مستقبلية باعتبارها العاصمة الأبدية لإسرائيل، يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لا ترى في الشعب الفلسطيني كتلة واحدة متماسكة لها ذات الأهداف وذات المصير، وهو ما تهدد بعض الأطراف الإسرائيلية الشقيقة الأردن به أيضاً.
الحلول الأمريكية والإسرائيلية تقوم، كما قلنا، على تفكيك القائم وعدم الاعتراف بوحدة الشعب التاريخية والثقافية، ولهذا فإن التهجير أو القتل أو الإبعاد أو الإنكار أو التفكيك حلول مقبولة، خصوصاً إذا تمت بالقوة الغاشمة، وهو منطق يجب عدم الاستسلام له أو التعاطي معه أو السماح له بالنجاح.
أقول ذلك حتى لا نستيقظ ذات صباح لنجد أن بلاد الشام كلها قد أعيد تركيبها على أسس أخرى غير تلك التي تعودنا عليها بناءً على اتفاق سايكس بيكو، وهي أسس لم تؤدِ إلى شيء حتى الآن، والخوف كل الخوف، أن يعاد تركيب هذه البلاد على أسس أخرى أقل وأصغر وأضيق وأكثر عرضة للتفجر والغرق في الفقر والتبعية، من الواضح أن اتفاق سايكس بيكو لم يعد نافعاً للمستعمر ولا قادراً على تهدئة المخاوف والهواجس والأطماع المتجددة.

