تراجع الأرثوذكسية اليهودية وبرامجها الاستيطانية في المؤتمر الصهيوني التاسع والثلاثون
الكاتب: د. رمزي عودة
عقد المؤتمر الصهيوني التاسع والثلاثون في القدس المحتلة في الفترة من 28-30 أكتوبر الماضي، والذي يعتبر الأكبر من حيث التمثيل منذ عقد المؤتمر الصهيوني الأول على يد مؤسسة الحركة الصهيونية ثيودور هيرتزل عام 1897. واللافت للنظر في هذا المؤتمر أنه ولأول مرة ترأس دورته إمرأة وهي غوستي يهوشوا برافرمان، رئيس قسم التنظيم والتواصل مع الإسرائيليين في الخارج في المنظمة الصهيونية العالمية. كما أن نسبة النساء المشاركات في المؤتمر كانت كبيرة في منحى لم يرق للأحزاب والحركات الدينية الصهيونية المتطرفة، ومع ذلك أصرت هذه الأحزاب على المشاركة في هذا المؤتمر، ولم تنسحب احتجاجاً على مشاركة النساء، ولا على العديد من مشاريع القرارات التي قدمتها للمؤتمر وفشلت في الحصول على الأغلبية لإقرارها مثل مشروع قرار ضم الضفة الغربية. وفي الحقيقة، يعود سبب عدم انسحاب الأرثوذكسية اليهودية الصهيونية الى كون هذه الاحزاب براغماتية تتسابق من أجل الحصول على نصيب من قيمة المليار دولار المخصصة لبرامج المؤتمر الصهيوني والتي تم جمعها كتبرعات من يهود الشتات وبالأخص من يهود الولايات المتحدة الامريكية، والذين عرفوا في هذا المؤتمر باسم تيار اليهودية الاصلاحية، حيث كان لهم الدور الأبرز في إقرار قوانين لها علاقة وثيقة بتحقيق السلام وإقامة الدولة الفلسطينية "المشروطة" ومكافحة معادات السامية المنتشرة في المجتمعات الغربية، اضافة الى إقرار برامج للتعافي بعد حرب غزة التي استمرت لمدة عامين. وفي تعليقه على مقررات المؤتمر الصهيوني التاسع والثلاثون، أشار الباحث خالد غنام الذي ترجم مقررات المؤتمر الى أن قرارات هذا المؤتمر تشير بشكل واضح الى تراجع تيار الارثوذكسية المتطرفة، وأضاف غنام أن تيار اليهودية الاصلاحية في المؤتمر نجح في شرح من هو اليهودي بعيداً عن فكرة التدين والايمان المتضمنة في فهم الارثوذكسية اليهودية المتطرفة. من جانب أخر، شهد هذا المؤتمر تصارعاً بين التيارات الدينية المتطرفة والتيارات المعتدلة حول تولي المناصب الكبرى في المؤتمر الصهيوني مثل المنظمة الصهيونية العالمية، والصندوق القومي اليهودي (KKL)، ومنظمة كيرين هايسود.. ووفقاً لمجلة "تايمز أوف اسرائيل"، سيتولى الحاخام دورون بيريز، رئيس حركة "المزراحي" الصهيونية الدينية العالمية، منصب الرئيس القادم للمنظمة الصهيونية العالمية. وفي منتصف فترة ولايته الممتدة لخمس سنوات، سيحل محله ممثل عن حزب "يش عتيد". كما سيتولى عضو الكنيست مائير كوهين عن حزب "يش عتيد"، منصب الرئيس القادم للصندوق القومي اليهودي (KKL). وسيحل محله في منتصف فترة ولايته ممثل عن حزب الليكود. وفي ظل هذه التقسيمات يمكن ملاحظة أنه برغم غياب الجماعات الصهيونية المتطرفة عن هذه المناصب، الا أن التيارات اليمينية ويمين الوسط ما زالت لها الكلمة الأولى في تقرير مصير الحركة الصهيونية خلال الخمس سنوات القادمة.
من جانب أخر، فشلت جماعات الأرثوذكسية اليهودية المتطرفة من فرض أجندتها الاستيطانية على مقررات المؤتمر، حيث سقطت كافة مشاريعها المقدمة في موضوعة الاستيطان والضم، ومن أهم المشاريع المقدمة في هذا الاطار والتي سقطت جميعها، مقترح مشروع ضم أجزاء من قطاع غزة، ومقترح مشروع بسط السيادة على الحرم القدسي، ومقترح مشروع تعزيز وعي الشتات بمكانة الحرم القدسي او ما يسمونه الهيكل المزعوم، ومشاريع تعزيز الاستيطان والضم في كل أنحاء الضفة الغربية ومنع قيام الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية. بالمقابل، نجح المؤتمرون في مؤتمر الحركة الصهيونية من استصدار قرار يقضي بوقف إقامة مخطط مستوطنة 1E، وهو مُخطَّط استيطاني يهدف إلى ربط القدس بعدد من المُستوطنات الإسرائيليّة الواقعة شرقها في الضفة الغربيّة مثل مُستوطنة معالي أدوميم، بما يمنع إقامة الدولة الفلسطينية، حيث قرر المؤتمر مطالبة الحكومة الاسرائيلية بوقف إنشاء مستوطنة جديدة في منطقة E1 وذلك في اطار التناغم مع توجيهات كافة الادارات الامريكية منذ عهد الرئيسين كلينتون وبوش. وفي سياق القرار، أعلنت المنظمة الصهيونية العالمية عن سعيها على تطوير مواد دبلوماسية عامة تشرح العلاقة بين السعي لتحقيق السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين وخطورة اقامة مستوطنة E1 على هذا المسعى. وفي قرار أخر، تم إعلان منع مشاركة المنظمة الصهيونية العالمية من تمويل أو تنفيذ الاستيطان في قطاع غزة بشكل مباشر أو غير مباشر.
من التحليل السابق، نجد أن السياق العام في المؤتمر الصهيوني التاسع والثلاثون لم يشهد فقط تراجعاً للارثوذكسية اليهودية، وإنما أيضا شهد تراجعاً في برامجها الاستيطانية، حيث أكد المؤتمرون على أهمية تحقيق السلام الشامل ومنع الضم والاستيطان لاسيما فيما يتعلق بمنطقة E1 في الضفة الغربية المحتلة. ومع هذا يبقى السؤال الرئيسي ماثلا أمام الجميع في ظل تغول الحكومة اليمينية المتطرفة الصهيونية الحالية، وهو هل تنجح مقررات المؤتمر الصهيوني التاسع والثلاثون في فرض قراراتها على هذه الحكومة ؟ أم أنها ستبقى مجرد توصيات لن بتم الأخذ بها من قبل رئيس الحكومة الاسرائيلية نتنياهو الذي لم يجرؤ على حضور المؤتمر خوفاً من مسائلته على جرائم الفساد وعلى مسؤوليته عن السابع من أكتوبر.

