البلاد التي لم تَنْجُ بعد
الكاتب: د. عدنان ملحم
نقطة ضوء .
البلاد…
هذه البلاد التي تُصادَر أرضُها، ويُقطع شجرُها، ويُسرق ثمرُها، وتُغلَق طرقُها، وتُدمَّر وتُهجَّر مخيماتُها، كأنها تُنتزع من جذورها يومًا بعد يوم. بيوتُها ومحالُّها ومساجدُها تُحرَق، ومقدّراتُها تُنهَب وتُهرَّب، والناس يُدفَعون ببطءٍ إلى حافّة اليأس.
▪️البلاد…
إرادةُ الناس تضعف، واهتماماتُهم الجمعية تُصهَر، ووجوهُهم تتعب. الفقرُ والبطالةُ والحاجةُ تحاصر أرواحَهم قبل جيوبهم، وتغدو العواصفُ في داخلهم مجبولةً بالقهر والخذلان والذلّ.
▪️البلاد…
هياكلٌ سياسيةٌ واقتصاديةٌ ووطنيةٌ تقيم على قمم الجبال، لا ترى إلا ما يناسب حكمَها وثروتَها ومصالحَها. حكوماتُها ومؤسساتُها وفصائلُها تسير في وادٍ، وشعبُها يمضي في وادٍ آخر، يحمل وحده عبءَ النهار ووجعَ الليل.
▪️البلاد…
حكوماتها ، وزاراتُها، سفاراتُها، مؤتمراتُها، ورشُ عملها، إعلامُها، بنوكُها، وشركاتُها وثرواتُها… عوالمُ لا تشبه الواقعَ الفلسطيني. وطنٌ يعيش بين مطرقةِ احتلالٍ إحلاليٍّ استيطانيٍّ عقائديٍّ، وسندانِ عجزٍ داخليّ، وبينهما شعبٌ يقف وحيدًا، يحمل نضالَه وذاكرتَه وكرامتَه، ويحلم ببناء وطنٍ من عزٍّ وكرامةٍ وعدلٍ ومساواة.
▪️البلاد…
وفي غزة… قطاعٌ يبحث عن حياةٍ وأملٍ؛ شوارعُه تحوّلت إلى مقابرَ وأكوامٍ من رمادٍ وحجارة، وناسُه يُطحَنون بين جدران العذاب والجوع والدفء المصادَر. وفي كل بيتٍ غزّيٍّ خيمةٌ معلّقةٌ بين السماء والتراب، تنتظر معجزةً قد تأتي… أو لا تأتي.
▪️البلاد…
شبابُها يحملون حقائبَ هجرتهم، ويسيرون نحو مطارات الرحيل، يبحثون عن مستقبلٍ خارج حدود وطنهم. بطالةٌ تطحنهم، وفقرٌ يخنقهم، وضياعٌ يحاصرهم، وفراغٌ يعبث بدواخلهم.
▪️البلاد…
يقاتلها الاحتلال بسلاحه وظلمه ، وتحاصر الفرقةُ والانقسامُ مؤسساتها وزعاماتها وفصائلها وحركتها الوطنية. بلادٌ تُذبح على مهلٍ… وشعبٌ، رغم كل شيء، ما زال يقاوم.
▪️البلاد…
أسرى في سجون وزنازين العدو يمضغون الوجعَ ببطولةٍ وصمود، يتقاسمون الجوعَ والبردَ والذلَّ، يبحثون عن ضوءِ شمسٍ ونافذةِ أمان. وفي الخارج عائلاتٌ تنتظر مخصّصاتِهم المالية على أحرّ من الجمر.
▪️البلاد…
يُعاد تشكيلُ مناهجها وفق مقاييسَ لا تعرف تاريخًا ولا جغرافيا. تُغيَّر لتُفرَّغ من روحها، وتُبدَّل كلماتُها لتمحى ذاكرتُها الجمعية الحرّة، في مقابل مناهجِ احتلاليةٍ تفوح منها روائحُ الموتِ والحقدِ والعنصريةِ البغضاء.
▪️البلاد…
تحتاج إلى من يتذكّر أن الوطن ليس مشروعًا إداريًا، ولا حسابًا بنكيًا، ولا منحةً دولية. الوطن روحٌ تُحمَل، وحقٌّ يُحمى، وذاكرةٌ تُصان، وشعبٌ يجب ألّا يُترَك وحيدًا في وجه الموت والخذلان والرماد.
▪️ في ذكرى إعلان الاستقلال الفلسطيني: جرحُنا عميقٌ، ووجعُنا كبير، وحالُنا صعب. بلادُنا تُنتزع أطرافُها قطعةً قطعة، وتُسحب روحُها من تحت أنفاس أهلها. مدنٌ تتهاوى، وقرى تُمحى، وشهداءُ يُدفنون، وأطفالٌ يكبرون على أصوات الخوف والجوع.
فلسطين تُقاوم بالمشيئة وحدها، وبالناس وحدهم، وبقلبٍ لا يتوقف عن النزف… ولا يتوقف عن الإيمان. فلسطين لجميع أهلها منذ فجر التاريخ حتى اليوم؛ لحمُها عدل، ودمُها مساواة، وقلبُها شراكة، وعقلُها وحدة… ولا مكانَ لظالمٍ أو فاسدٍ أو محتلٍّ على جسدها الطاهر الشريف.
هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
