البنوك تربح.. والاقتصاد يتجمّد
الكاتب: د. سعيد صبري – مستشار اقتصادي دولي
تعيش المنظومة المالية الفلسطينية واحدة من أكثر لحظاتها تعقيدًا منذ تأسيس سلطة النقد. ليست المشكلة في نقص المال أو في العجز المالي كما كان يُظنّ، بل في أنّ المال موجود لكنه لا يتحرّك. السيولة عالقة داخل النظام البنكي، والبنوك نفسها باتت أشبه بخزائن ممتلئة لا تعرف كيف تُفرغ ما بداخلها، في وقت تُحكم فيه إسرائيل قبضتها على حركة الشيكل وتتحكم بمساره من وإلى فلسطين. يعتمد الاقتصاد الفلسطيني على الشيكل بنسبة تفوق 85 % من التعاملات اليومية، ومع القيود الإسرائيلية على إعادة ضخ هذا النقد، تراكمت مليارات الشواكل في البنوك المحلية دون أن تجد طريقها إلى الاقتصاد. المفارقة أنّ هذه الوفرة في السيولة لم تجلب الراحة، بل صنعت أزمة جديدة: الوفرة التي تُشلّ. ورغم هذا الحجم الضخم من النقد، ما يزال الشمول المالي محدودًا؛ فثلث الفلسطينيين فقط يمتلكون حسابًا بنكيًا، والبقية يعيشون خارج النظام المالي. هذه الفجوة تعني ببساطة أن النقود لا تصل إلى حيث يُنتج الناس ويستهلكون، بل تبقى حبيسة الحسابات والقيود.
هذا الفائض النقدي، الذي كان يُنظر إليه في السابق كدليل على النشاط التجاري، تحوّل إلى عبء ثقيل على البنوك التي باتت عاجزة عن إدارة السيولة أو الالتزام بنسب الاحتياطي الإلزامي. ومع امتلاء خزائنها بالأوراق النقدية دون إمكانية تدويرها، تراجعت قدرتها على منح القروض أو تمويل الأنشطة الإنتاجية. تُظهر المؤشرات أنّ القروض تراجعت إلى نحو 68 % من إجمالي الودائع، وأن البنوك أصبحت أكثر حذرًا في الإقراض، فكل قرض جديد يعني كومة أخرى من السيولة الورقية العاجزة عن الحركة. ومع هذا التحفّظ، تقلص التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة – التي تمثل أكثر من 95 % من الاقتصاد – إلى نحو عُشر محافظ الائتمان فقط. ومع منتصف عام 2025، بدت المفارقة أكثر وضوحًا: البنوك تُعلن أرباحًا بلغت 45.5 مليون دولار في نصف عام واحد، بنمو تجاوز 380 % عن العام السابق، في وقت تتراجع فيه الأسواق ويزداد الركود. أرباح البنوك لم تأتِ من نشاطٍ إنتاجي، بل من الفوائد والرسوم، أي من اقتصاد مالي يربح على الورق بينما يخسر الواقع نبضه.
هذا الاختناق الائتماني أصاب الدورة الاقتصادية بالجمود؛ الطلب يهبط، والقدرة الشرائية تتآكل، والإيرادات الحكومية تتراجع مع تقلص النشاط التجاري. ومع عجز الخزينة عن الاقتراض داخليًا، تتّسع فجوة التمويل، ويضعف الإنفاق العام، فتتعمق دوامة الركود. وفي المقابل، بات المواطن يحتفظ بنقده خارج البنوك خوفًا من القيود، فتتراجع الثقة بالنظام المالي أكثر فأكثر. المال يُخبَّأ في البيوت، والاقتصاد الرسمي يخسر، بينما يتضخم الاقتصاد الرمادي بلا ضوابط. كل ذلك يجري في ظل نظام مالي لا يملك حرية الحركة؛ فالأزمة ليست مصرفية فحسب، بل سياسية في جوهرها. فالتحكم الإسرائيلي بحركة الشيكل أصبح أداة ضغط تُستخدم عند الحاجة، تُبطئ التحويلات وتقيّد المقاصة وتخلق تبعية نقدية خانقة. وفي المقابل، لا تملك المؤسسات الفلسطينية أدوات نقدية مستقلة أو نظام تسوية وطني فعّال، رغم المحاولات المتزايدة لتطوير أنظمة الدفع الإلكتروني والمحافظ الرقمية، وهي محاولات ما زالت محدودة أمام منظومة نقدية ضخمة ومقيدة سياسيًا.
في غزة، تبدو الصورة أكثر قسوة. فبعد شهور الحرب الطويلة، تعمل بعض فروع البنوك لساعات محدودة، بينما البنية التحتية المصرفية شبه مدمَّرة. لا سيولة كافية، ولا أجهزة صراف عاملة، ولا قدرة على توثيق بيانات العملاء بعد فقدان السجلات والنزوح الكبير. تُقدَّر حصة غزة من إجمالي القروض بأقل من 10 % فقط، وودائعها بنحو 11 %. أما اقتصادها، فقد انكمش بأكثر من 80 % خلال عام واحد. إنها منظومة نقدية منهَكة داخل اقتصاد محاصر يحاول التنفس دون هواء.
أما بعد، فإنّ أي محاولة لمعالجة الأزمة الراهنة لا يمكن أن تقتصر على حلول مصرفية أو قرارات ظرفية. فالمشكلة ليست في حجم النقود بل في نظامها البنيوي. المطلوب اليوم رؤية استراتيجية تعيد صياغة المنظومة النقدية الفلسطينية على أسس أكثر استقلالية ومرونة. هذه الرؤية تقوم على ثلاثة مسارات مترابطة:
مقاصة وطنية مستقلة تُدار بإشراف مهني ودولي لتأمين تدفق النقد دون قيود سياسية.
تحول رقمي تدريجي يشمل المحافظ الإلكترونية وربما عملة رقمية فلسطينية تُقلل الاعتماد على النقد الورقي وتعزز الشمول المالي.
توجيه التمويل نحو الإنتاج لا نحو الاستهلاك، حتى تتحول البنوك إلى محرك للنمو لا إلى خزائن مغلقة.
فمن دون هذا التحول البنيوي، سيبقى النظام المالي الفلسطيني أسير التبعية، وسيظل الاقتصاد الوطني يدور في دائرة الانتظار. المال الفلسطيني اليوم ليس مفقودًا، بل محتجز في منظومة لا تسمح له بالحركة. والبنوك التي تُعلن أرباحها ليست بالضرورة رابحة في ميزان التنمية. فحين تتوقف النقود عن الدوران، يتوقف الاقتصاد عن الحياة، وما لم تُكسر هذه الحلقة قريبًا، سيبقى الربح حبرًا على ورق، والخسارة واقعًا يعيشه الجميع.

