الأسير النادر.. فلسطيني سامري في وجه الاحتلال

الكاتب: تامر الدويك
وُلد نادر صالح ممدوح صدقة عام 1977 على سفح جبل جرزيم في نابلس، في بيتٍ صغير يحتضنه الجبل وتعلوه ذاكرة قرون. جاء من طائفة لا يتجاوز عددها المئات، لكنه حمل هموم بلدٍ بأكمله أكبر من كل التصنيفات الضيقة. في طفولته كان يسمع عن فلسطين أكثر ممّا كان يُطلب منه أن يفهم، ويشاهد جنود الاحتلال أكثر مما يشاهد أفراد طائفته الذين يتناقصون جيلًا بعد جيل. كان الانتماء عنده شعورًا تلقائيًا لا بيانًا سياسيًا، ولم يكن يتوقع أن يخبئ له القدر دورًا أبعد بكثير من مجرّد فرد في أقلية.
دخل المدارس في نابلس ثم التحق بجامعة النجاح الوطنية ودرس التاريخ والآثار، كأنّه يحاور الماضي كي يفهم معنى البقاء في أرضٍ تتعرض للمحو منذ قرن. مع الانتفاضة الثانية لم يبق على الهامش، فالاحتلال لم يفرّق يومًا بين فلسطيني وأقليّة، والرصاصة لا تسأل عن الانتماء الديني قبل أن تخترق الجسد. انخرط تدريجيًا في العمل الوطني والطلابي ثم التحق بصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكتائب الشهيد أبو علي مصطفى، فصار بالنسبة للمحيطين به حالة غير مألوفة: سامري يحمل البندقية دفاعًا عن القضية.
في 17 آب 2004، حاصرت قوات الاحتلال منطقة مخيم العين في نابلس واعتقلته في عملية استهدفت مجموعات مقاومة. لم يتعاملوا معه كاستثناء، بل كعدو كامل التعريف. وبعد فترة تحقيق ومحاكمة شكلية حُكم عليه بستة مؤبدات وأكثر من أربعين عامًا إضافيًا، في واحدة من الأحكام الأطول الصادرة بحق أسير فلسطيني من أقلية دينية. ومع دخوله السجن بدأ فصلٌ آخر من الحكاية، إذ لم يُعامل كأسيرٍ عادي، بل كرقمٍ مربك في رواية الاحتلال الذي يدّعي احتواء “الأقليات” تحت مظلته. لكن سجناء الفكرة لا يختلفون: يعتادون الألم ويحوّلونه إلى ما يشبه الشرف.
حياته في الاسر...
داخل المعتقلات، عرفه الأسرى بلقب “نادر السامري”. البعض أُعجب بصلابته، والبعض دهش من جرأته، لكنه في النهاية كان واحدًا منهم، لا يفترض لنفسه تميزًا ولا يقبل أن يُوضع في خانة تخصه وحده. ومع معرفته الجيدة بالعبرية، لعب أحيانًا دور الوسيط أو المفاوض الداخلي، واستطاع أن ينتزع للأسرى حقوقًا صغيرة لكنها ثمينة وسط جدران الإسمنت والحرمان. مرّت السنوات كثيفةً وباردة، لكنه بقي ثابتًا بخطوات من يعرف أن الزمن قد يسجن الجسد، لكنه لا ينتزع الفكرة.
في تشرين الأول 2025 جاء اسمه ضمن قائمة صفقة تبادل أسرى فجّرت فرحًا مشوبًا بالارتباك. خرج إلى النور بعد أكثر من عقدين، لكن ليس إلى بيته في نابلس، بل إلى إبعادٍ قسري نحو مصر بحسب ما أكدته مصادر متعددة. لم يُسمح له بأن يلامس تراب الجبل الذي وُلد فوقه، وكأن الاحتلال أراد أن يضمن أن الحرية لا تكتمل إلا منقوصة. ومع ذلك، لحظة خروجه من السجن كسرت صمتًا طويلًا حول قصة كان يظن كثيرون أنها انتهت أو نُسيت، فإذا بها تعود كنصٍّ مفتوح على تأويلات الهوية والانتماء والمقاومة.
لم تكن رمزيته في كونه أسيرًا طويل الحكم فحسب، بل لأنه شكّل ثغرة في رواية الاحتلال عن “الأقليات المحمية”. خرج من طائفةٍ صغيرة لكنه حمل وجعه مثل أي فلسطيني تحت الاحتلال، وذاع اسمه بين جماهير لا تعرف شيئًا عن تفاصيل العبادة السامرية لكنها رأت فيه صورةً حقيقية لفكرة الوطن المشترك. قصته تقول إن الهوية ليست طقسًا ولا لقبًا بل موقفٌ حين يُمتحَن الإنسان في أكثر أماكن العالم ضيقًا.
وحين يُذكَر اليوم اسمه، لا يُقال “السامري الذي اعتُقل”، بل يُقال: المقاوم الذي انتمى رغم أن العالم توقع حياده، وصمد رغم أن الحكم كُتب ليكسر ظهره، وعاد للحرية مغتربًا عن بيته لكنه أقرب ما يكون من ذاكرة شعبٍ كامل. تلك ليست سيرة شخص فقط، بل حكاية بلد يرى نفسه في رجلٍ نادر حُمِل إلى الأسر ثم خرج منه دون أن يتغير اتجاه قلبه..