غزة وفن الحياة وأدب الإحسان!

الكاتب: بكر أبوبكر
أعددت المادة المرفقة لغرض عقد دورة ومحاضرات ذات صلة بالعنوان وهي استلهمت الكثير من أفكارها من الأحداث مما عشناه على مدار عامين من المقتلة والنكبة الثانية على رأس فلسطين والفلسطينيين والمنطقة، والكارثة والإبادة الجماعية في غزة، ثم الضفة وارتأيت أن أصدرها اليوم مع وقف العدوان الباغي على فلسطين من بوابة قطاع غزة العظيم، وأضفت كلمة غزة على العنوان الأصلي لما لها من فضل.
خضنا عديد النقاشات والحوارات مع عدد من الأخوات والأخوة ذوي العقلية المنفتحة، وتبادلنا الآراء بين النظرة الفلسفية وتلك الإدارية والاجتماعية، أو المتعلقة ببناء الذات والمجموع (النظرة التنظيمية) وفيما يظن المرء أنه يبتعد عن السياسة فهو لا يدرك أنه في فلسطين كل شيء مرتبط بالسياسة من جهة حتى بالأنفاس والماء والعَجاج. ومرتبط بالعقل الإرهابي للمعتدي الذي لا يمل فكرة الإيذاء الجسدي والنفسي والعقلي ولا يمل تلويث التراب ذاته وتعفير وجوه الناس بخرافات وأساطير من آلاف السنين لن تنفعه شيئًا حين يدرك متاخرًا أن الحق أبلج والعدالة ستنتصر.
حوار ورسالة
خضنا مع الأخوة والأخوات حوارات في شتى المواضيع وفي آخرها منذ أيام كانت فكرة بناء الذات والجماعة (منظمة/تنظيم، مؤسسة، فريق...) التي انفتحت على عدد من المفاهيم الكثيرة ما بين العمل والعطاء والإيمان والولاء والانتماء والانضباط والالتزام واحترام الوقت والصلاة والصبر والتواصل والاستماع وحسن الإدارة والنظرة التفاؤلية والعقل المبدع والعقل النقدي وفي مسائل رد المظالم والمقاومة والثورة والعيش بالفكرة أو الرسالة والرضا والسعادة والاتقان تلك المرتبطة بالعمل وبالاحسان والاخلاص وغيرها الكثير من المفاهيم.
القراءة العميقة والتجارب الرشيدة
لقد شكلت القراءة العميقة والتجارب الرشيدة للآخرين من حيث الاستفادة منها وأخذ العبر والتجارب الذاتية والتبحر في سياق العقل الحضاري المتميز عن الآخر الغربي لكنه المنفتح شكلت خزان أفكار ومفاهيم وقيم لا ينضب، وهي ما كان لها الدور بالحفاظ الكامل على سلاسة تدفق العطاء الذهني، وما ينساب من بين الأصابع من ماء الحياة.
في الحوار الأخير ضمن أحد الاجتماعات مع نخبة من الكوادر الجليلة قبل كتابة هذه المقالة كانت الفكرة التي يناقشها الجمع المؤمن هي مدى أهمية الهدف والسعي والانضباط في حياة المرء، (وما حصل أيضًا بنقاشنا مع الأخوة محمد قاروط أبورحمه وماهر عطية، ود.توفيق الباشا، وصلاح عمرو، ونبيل الحارثي وآخرين، كل على حدة) وما فجّر لدي فكرة المعنى والوسيلة لتحقيق معنى الاستخلاف الإلهي والحياة من حيث هي دنيا أو عليا، ومن حيث أن الوهاب لا يعطي عبثًا وإنما يعطي ويضع قوانينًا لكل شيء، ومنها قوانين العيش والعمل والإيمان تحقيقًا لمنطق التعارف بين الشعوب من جهة، وسعادة الدارين.
كتب المفكرون المسلمون الكثير ما يصلح الاستعانة به في هذا الباب وطرقوه من عدة جوانب سواء فلسفية او مجتمعية او عقدية او من حيث غرس المباديء والقيم، ومن أسفارهم واستناداً للكتاب الأول العظيم (القرآن الكريم) تجد المفاتيح الذهبية لما تريده إن أحسنت الفهم وأدركت أهمية التفكر والتأمل والتطوير الذاتي الذي هو مهمتك أنت وليس مهمة أحد آخر ومن هنا يبرز معنى العيش أو فن الحياة وأدب الاحسان.
الفكرة الجامعة والتميّز المحمود
فكرة علم أو فن هي فكرة ما بين القواعد العلمية المخبرية التجريبية التي تنتج معادلات محددة، وما بين الأصابع الذهبية الانسانية التي تجعل سِمة او سمات متميزة لذلك كان الفن تعبيرًا مختلفًا بين فنان وآخر، وعندما يبرز الأدب في فهم العرب فإنه يعني في أحد معانيه ما يسمى اليوم (الاتكيت) أوالآداب أو قواعد السلوك في مجال ما أو أكثر، ومنه آداب المجالس أو المجالسة عند العرب ما يماثل حاليًا فن الاتصالات وبناء العلاقات، وأدب الاستماع ما يعني بالمفردات الحديثة فن الاستماع وكأن هناك تبادلية بين مفردة الادب والفن. وفي الأدب المعروف (من شعر ونثر وقصة ونقد أدبي...) فن يضع لكل أديب بصمته المختلفة حتى لو كان كل منهم يكتب أو يتحدث بذات المجال او الموضوع، ومن هنا وجب الفهم والتفريق ما بين الفكر الجامع والمتميز عن فكر الأمم الأخرى ومساحة الصراع وامكانية الاستفادة قراءة وصراعًا وهضمًا أو نقدًا او اتباعًا للقواعد إن لم تمس ذات العقيدة أو القيم المشرقية المتميزة في حضارتنا.
ويجب فهم معنى التميز الذاتي للجماعات أو الأفراد ضمن ذات المجتمع او الجماعة أو الفريق في ظل الفكر أو الثقافة الكلية الجامعة، التي تتيح التميز للأشخاص في فضائها، وتتيح للفرادة في مواضيع محددة أن ترسم هذا الشخص أو ذاك أديبًا او مفكرًا أو فنانًا او عقلًا مرحابًا أو قائدًا جماهيريًا بسمات محددة أو متميزة يمكن تعدادها.
المسيحي المشرقي
نحن وعندما أقول نحن فأقصد هنا المشارقة ضمن فرادة وتميز وخصوصية الحضارة العربية الاسلامية بالاسهامات المسيحية المشرقية، وكثيرًا ما انتبه القراء أو الأخوة والأخوات المحاورين على إصراري على "المسيحية المشرقية" فبات لزامًا عليّ التوضيح بالقول أن المسيحية المشرقية هنا تعني الابداعات والانتاجات الحضارية لأخواننا المسيحيين بكافة طوائفهم الموجودين معنا في منطقتا المشرقية من العالم كما اصطلح على تصنيفه وهم يمثلون الجناح الثاني والمهم في حضارتنا-وفي عصر من العصور كان لليهود العرب أو من جنسيات أخرى ذات الاسهام- ولا نقصد مما هو واضح المسيحيين على تصنيفاتهم للكنائس الشرقية أو الغربية. وهنا لابد القول أن الكورد والأمازيغ المغاربة بشكل أساس يمثلون بحق الى جانب العرب اللسان إسهامًا عميقًا في هذه الحضارة الجامعة والثقافة المتنوعة.
إن العقل المسيحي الغربي ليس عقل حضاراتنا أبدًا فهو عقل استعماري احتلالي تنمّر على الأمم في مراحل قديمة (فترات الغزو الافرنجي، المعروف بالصليبي حسب تسميتهم هم) وفترة الاستخراب (الاستعمار) في القرون الأربعة الماضية على الأقل حيث افترض نقاء عنصره وعلوّه على الناس ضمن فكرة حضاريته المتميزة عرقيًا وثقافيًا! ما يعني لديه تبرير بل تسويق أو تسويغ استعباده للآخرين واخضاعهم بالقوة الساحقة ونهب ثرواتهم، ومازال مثل هذا العقل سائدًا لدى الكثير من النخب الغربية اليوم خاصة تلك التي تشربت الثقافة البروتستانتية المسيحية الانجيلية الصهيونية ما أصبحت في أمريكا تتمثل بالمحافظين الجدد الذين يجدون في انعزال فكرهم (العنصري) السلوى عن كل الناس وهنا يظهر الفرق بين فكرة التميز المحمود في ظل الانفتاح والرحابة، وفكرة التميز بمعنى إقصاء الآخر وإغلاق أبواب النعيم عنه.
التميّز المذموم
وما دمنا تحدثنا عن التميز المحمود فلا بد من ذكر التميز المذموم وإن كنا أشرنا لجزء منه فيما سبق حيث يتميز بالعليائية (أو الاستعلاء) والانصراف عن المختلِف والتكبر عليه وهو ما تراه هذه الأيام لدى الجماعات العنصرية أو القومية الشوفينية او الدينية الخارجية (من الخوارج) التي تفترض نقائها واقتناصها للحقيقة المطلقة دونًا عن الأمم الأخرى بل ودونًا عمن يجاورهم ممن هم من ذات القومية أو الدين أو حتى الجماعة، وهنا ندخل في مساحة الانحشار بمنطقة الضيق، وهي المنطقة التي تشكل ملعبًا خصبًا لذوي الأفكار المتطرفة.
إن فكرة التميز الايجابي أو المحمود فكرة انفتاحية تتحلى بقيمتين الاولى: ايمان وسعي ورسالة ورصانة فكرية وتواصل والتزام بالرسالة لإسعاد الذات والبشرية من جهة وفي آلية تحفيز وتعبئة ودفع وجذب للجميع لمنطقة الرسالة الجامعة أو السعادة الكامنة.
أما القيمة الثانية للتميز الايجابي فإنه وإن رفض عدد من المباديء أو القيم أو القوانين عند الأمم أو الجماعات الأخرى لأسباب عقدية او بالتفسير فهو لا يُقصي ولا يغلق الأبواب أبدًا بل ويجعل من فكرة الحوار المتواصل والدعم الايجابي والجذب للقناعات الراسخة هو الأساس، وليس العدوان او الإيذاء او الجبر أو سن القوانين الاستبدادية التي تحاول أن تصهر كل الحضارات أو الأفكار أو القيم والأخلاق في بوتقة واحدة، وهو مما لا يكون.
وعليه فإن التميز المذموم هو بالحقيقة عنصرية مقنعة سواء بقومية او عشائرية او قبلية أو ديانة أو استبداد مرتبط بنزق سلطاني قد يطال السلطان الأكبر والسلاطين ممن هم أدنى في مساحات سيطرتهم وتحكمهم في البلد وفي الوزارة وفي الشركة وفي المؤسسة وفي الفريق.
إن التميز المذموم بالحقيقة استبداد مفضي لتسويغ وتبرير الاستعباد وتقعيد للإخضاع فحيث استقر فهم التميز المذموم وقع الانعزال عن الآخر المختلف (في قوقعة أو شرنقة مغلقة مادية أو نفسية) وتم عمل أسوار كثيرة تحيط بالفكرة النقية او المطلقة او المقدسة ومنع دخول الهواء اليها ذاك القادم نفحات من الآخر، وبانقطاع الهواء تتعفن الأفكار وتصبح أكثر شراسة وعدوانية كما حال المنظمات أو الدول أو الجماعات المتطرفة يسارًا او يمينًا لأنها تغذي نفسها من ذاتها المنعزلة فتمارس التطرف والإرهاب سواء ذاك القادم من الدولة (دولة الاعتداء والإرهاب والفصل العنصري) او من الجماعات (او الأشخاص) القومية أو الدينية -من كافة الأديان-التي ترفع مشغل ملتها باعتباره يوجب حرق المخالفين لا الدعوة لجذبهم أو تقريبهم أو استقطابهم لذات الدين أو وجهة النظر.
فن الحياة، والرضا
إن فن الحياة ليست فكرة جديدة بل قد تجد فلسفة مرتبطة بالفكرة عند المفكرين والفلاسفة الكثر، وعند الإداريين وعلماء الاجتماع والنفس...الخ وحيث يعني هذا الفن إن استقر مفهوم أنه فن بمعنى التميز فإنه يعني تميز الاحتضان والاستيعاب وتميز تقدير الجمال جمال التنوع، وتحقيق هدوء النفس والرضا والسعادة الذاتية وفي المحيط، وبمعنى آخر فإن فن الحياة يمثل المنهج او الفلسفة او الطريق أو المسارات المؤدية لتحقيق حياة رضيّة ذات هدف ورضا وسعادة.
الحياة الرضيّة تشمل العقل، وهو مفتاح الخيبة والانتكاس كما هو مفتاح الرضا والعمل الخيّر، فبه مع إحسان استخدامه نهوض وتقدم وتطوير وإن أهمل أو تقوقع أو أغلق أو تجنب الآخر المختلف ينكمش ويتعصب ويغضب ويبتعد عن الرضا ليحل محله الغضب والحقد والبغض. وبه يتطاير الشرر من عين الحقود فيحرق الآخر ولا يتوقف الشرر حتى يحرق من حوله ولربما يحرق الشخص (أو الجماعة ذاتها).
يكاد علماء النفس يتفقون على مكونات الحياة السعيدة من خلال التركيز على المكونات الخمسة التالية
1. المشاعر الإيجابية
2. والمشاركة
3. والعلاقات الإيجابية
4. والمعنى (الهدف)
5. والإنجاز
الحياة الرضية أو فن الحياة يشمل العقل بمنطق إعمال التفكير والتأمل والتدبر ما أمرنا به الله تعالى بعشرات الآيات الكريمة التي رفضت الجمود والتقليد كما رفضت الأرضية الزلِقة، ورفضت الجمود والنحول بعدم أكل الطعام من موائد الآخرين ضمن حدود الحِلّة (من الحلال) وبعض الحركة.
إن الحياة الرضية او الحياة السعيدة أو حياة الاحسان لا تتوقف عن بناء العقل والنفس وتربية الروح للنظر وإدامة النظر في أرجاء الكون وفي النفس، النظر في الماضي وتركيز اللحظة الراهنة والنظر في المستقبل كل معًا أو كل على حدة، حيث وجب النظر في سيل لا ينقطع من التفكرات والجهاد الداخلي والصراعات التي يجب خوضها.
رضا القلّة المختارة (نموذج من غزة)
إن فكرة السعي للحصول على الحياة الرضيّة أو بلوغ السعادة قد تفهم بالأوضاع العادية ولكنها إبان المأساة والكارثة تحتاج الى شخوص بأكتاف صلبة وأرواح منيعة وقدرات نفسية هائلة قد لا تتوفر الا للقلة المختارة من الله تعالى واليكم نموذج لأحد الاخوة تحت النار والإبادة الجماعية والمذابح والمقتلة في قطاع غزة، يقول الكاتب علي أبو ياسين في 28/9/2025م عبر مجموعة خاصة بكتاب الرأي في فلسطين:
"أنا سعيد بالحرب ( ) نعم هناك أشياء كثيرة تسعدني !!. ليس كل الوقت حزن ودموع، هناك العديد من الأشياء التي تُسعد الروح وتضيء القلب رغم حلكة الليل الذي نحياهُ .
إكتشاف معانٍ جديدة للحياة تسعدني ..إكتشاف قيمة الأشياء تسعدني. إكتساب خبرات جديدة، تَعلم أن لا أحد في هذا الكون إختبرها سوى من عاش في غزة طوال فترة الحرب.
الأوليات أعيد ترتيبها تماما.
فمثلاً:
تكتشف أن أغلي شيء تملكه شخصياً هو الزمن.. سنوات عمرك المتبقية.. الايام التي إنقضت..الساعات، الدقائق التي تذهب هباء.
أكثر من عامين في أتون الحرب ونحن في حالة إنتظار وترقب أن تضع هذه الحرب أوزارها، تمر الشهور والسنين وأعمارنا نخسرها هباءً دون فعل أي شيء مهم .
أستيقظ كل صباح من النوم واكتشف أنني لا زلت على قيد الحرب، أقول لنفسي هانحن قد ربحنا يومًا آخر، علينا أن نحياه كما يجب على أكمل وجه.( )
وأتساءل ايضا عن ما هو الوجه الأكمل!!. ربما أن تكون لطيفًا بقدر المستطاع مع ذاتك ومع الآخرين، من يدري، لعلها فرصة الحياة الأخيرة في هذه المقتلة المستمرة.
أن تسعد روحك بما تيسر لك بالاشياء التي تعلم أنها تسعدك فعلاً.
ولكم أن تصدقوني، يا لها من سعادة غامرة تلك التي أجدها واقتنصها في اللعب مع الأحفاد.
الجلوس مع العائلة تحت أي ظرف، تصفّح جدران "الفيس بوك" ومتابعة تتابعات تطبيق "تكتك". إسعاد الآخرين ومَن يستحقون اهتمامنا.
كثيرةٌ هي الأشياء التي تدفعنا الي ذكريات الماضي، حيث الندم حليف بعض منها ويتوجب علينا أن ننساها، لم تكن ذات قيمة أو فائدة تذكر.. لم تكن سوى سلسلة من الخسائر المتواصلة.. تمامًا مثل أشخاص تصبح خسارتهم مكسبًا صافٍ لعدم إستحقاقهم كل ذلك الإهتمام.
في خضم الحرب تصبح الرؤية أكثر صفاءً لمن يمتلك نقاء البصيرة..
تحاول بقدر المستطاع الإبتعاد عن كل ما يزعجك. وهذا أصبح نظام حياة.
لم أعد استطيع التأقلم أو الإقتراب من المزعجين وكل ما يسبب تنغيص المزاج أو جلب النكد..
لدينا ما نفعلة فيما تبقى من أيام أعمارنا الغالية.
الحربُ كشفت معادن الناس بوضوح .فمنهم مَن كنت تعتقد أنه من الذهب فكان اعتقادك بمكانه وزاد توهجًا، ومنهم مَن كنت تعتقد أنه من الذهب فتبين بأنه من الصفيح، ومنهم من كنت تعتقد أنه من الصفيح تبين أن معدنه من الذهب .
إنها نعمةُ إكتشاف قيمة الاشياء في الحرب وفي ظل المجاعة.. أن تكتشف قيمة نصف ضرس الثومة وقيمة شريحة البصل، ومعني أن تحصل على رغيف خبز ليومك الطويل والمُنهَك.. أن تتطور لديك حاسة الشمّ لتصبح كحاسة الشم لدى كلاب تعقب الأثر.. أن تكتشف أن للوز النيء رائحة، ولورق الملوخية رائحة نفاذة حتي انك لو ركّزت قليلا بالرائحة عند شرائك للملوخية من السوق ستشتري الملوخية الأجود من قوة رائحتها المنعشة.
أما الاشياء التي لها رائحة بطبيعتها فالاحساس لديك يتضاعف مرات ومرات، فرائحة السمك المقلي على سبيل المثال تستطيع أن تشم رائحته عن بعد مسافات لا تتخيلها .
يبدو أن جسم الإنسان يطوّر حواسه ذاتيا حسب إلحاح الحاجة، وبالحرب حاجتك لكل الحواس تتطور فالتذوق على سبيل المثال يصبح له معان ٍ ومشاعر مختلفة تماما عن السابق.
فمثلا لو تذوقت اللحم بعد طول إنقطاع تكتشف أن اللقمة الأولي تضرب بالرأس مباشرة وتحتاج للحظات من السعادة المستحدثة التي لم تشعر بها من قبل وقد يدفعك هذا الشعور الى الضحك بشكل لا إرادي أنت ومن يشاركونك الطعام .فكل من اختبر بالحرب تذوق الأطعمة التي يحبها وانقطع عنها لشهور
الكلمة التي يقولها مباشرة بعد التذوق هي الطعم ضرب في راسي . سواء لحم أو فراخ أو مكسرات او فاكهة .كل شيء يصبح له معنىً جديد ومختلف.
نعم كل من عاش الحرب تعرض للخوف والقلق وعدم الأمان والحرمان والخذلان و الصدمات النفسية التي تنوء الجبال عن حملها، ولكن كل ذلك فور انتهاء الحرب سوف يتلاشى، أعلم أن الحرب ستلقي بظلالها عميقًا في النفوس، وسيظل هناك بعض الندوب التي لن تنسى ولكن هناك منتج لإنسان جديد صُهِر من نار وخيمة وصبر وإحتمال وحرمان، يعرف كيف ينبعث مرة أُخري كالعنقاء أكثر قوة وأشد صلابة عصي على الإنكسار."
الإحسان والنور
استطاع علي أبوياسين تحت النار والجوع والتهجير وقمة المأساة في قطاع غزة الفلسطيني البطل، وعلى مدار عامين أن يمارس فن الحياة بطريقته وتمكن أن يجد السعادة في أشياء يراها الآخرون عادية، لكنه وبحكم التجربة أصبح يراها بشكل مختلف، ورغب أن يراها جالبة للسعادة سواء بما يأكله أو يشمه أو يلمسه أو ينظر اليه أو يفكر به، وسواء في تطويره لقدرة التحمل النفسية وتحويل المأساة الى فرصة للتعلم و للاكتشاف ولتحقيق السعادة في أبسط الأشياء/ ما نلخصه من نصه المؤثر بالتالي:
· إكتشاف معانٍ جديدة للحياة
· إكتشاف قيمة الأشياء
· إكتساب أو تعلم خبرات جديدة
· إعادة ترتيب الأولويات
· اكتشاف أهمية الزمن والعمر والحياة
· أن تكون لطيفًا بقدر المستطاع مع ذاتك ومع الآخرين
· أن تسعد روحك بما تيسر لك بالاشياء التي تعلم أنها تسعدك فعلاً.
· نسيان الماضي الحزين والانطلاق للأمام
· تصبح الرؤية أكثر صفاءً لمن يمتلك نقاء البصيرة..
· ضرورة الابتعاد عن المزعجين وأصحاب النكد
· الحربُ كشفت معادن الناس
· الانصهار ما بين الحرمان والاحتمال والانبعاث والصلابة
أن القدرة على ممارسة فن الحياة من خلال أن تختط طريقًا منيرًا بالمشاعل وأنت على هدى يقتضي أن تُحسن السير على الصراط المستقيم، والاحسان المقصود هنا الإجادة والاتقان فمتى أتقن الانسان النهل (عقلي) والسير (فيزيائي)، والرشق (قيمي) عبر البسمة والكلمة الطيبة والمحبة والتفهم والقدوة حقق الرضا والحياة الطيبة وليس حياة الضنك والبؤس.
الاحسان ليس المنة او الدالة على شخص انما الاحسان هو اتقان العمل لذلك كانت "ان احسنتم احسنتم لانفسكم وان اسأتم فعليها" وكانت "قولوا للناس حسنا" اي بالطيب واللطيف ولذلك كانت "انا لانضيع اجر المحسنين" اي من يعملون بقلب ورب او باتقان وايمان. ولذلك قرن الاحسان بالتقوى "ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون".
وفي الاحسان مراقبة للذات، ومراقبة تحقيق رضا المولى في كل امر، وبالاحسان ضبط للأفكار ومرجعيتها ومقياسها الاول وما الانفلات العقلي الا غوصٌ بلا معنى بمضامين شاذة او منفرة يحسن إعادة رسمها في إطار المرجعية الثابتة، وأن شك فله ذلك ولكن ليكن مذهب الشك مرتبطًا بالحجج والقرائن والتفكير المنفتح على الأبعاد المختلفة، ومن يتقن فن الشك سيصل حتمًا الى اليقين فيحمي ذاته ويحسن خياراته ولا يهمه إساءة الآخرين.
من الداخل الى الخارج
من أسس الحياة الرضية أو الهانئة أن يكون لك هدف وفي البداية عليك التعرف على ماذا تريد ولماذا أنت في هذه الحياة بدءًا من الدائرة الاولى أي دائرة الذات (أنا العقل، وأنا النفس، وأنا الروح) أو دائرة أنا الحالي وأنا المستقبل (ماذا أسعى لأكون؟) وفي الدائرة الثانية حسب ترتيبك لارتباط الدوائر فيك فقد تكون الثانية دائرة الأسرة، تليها دائرة الأصدقاء ثم تتسع الدائرة اللاحقة لتشمل دائرة الجماعة فدائرة المجتمع وقد يكتفي البعض بدائرته الذاتية المتقوقعة فيخسر، وقد يهمل أو يلغي بعضهم هذه الدائرة فيعيش التقليد أو الانسياق او الإندراج او الانبهار الأعمى بالغير يقتات على فتاتهم والقمامة.
في جميع الأحوال فإن الاهتمام يبدأ من الداخل الى الخارج حتى لو كان هدف الانسان الأسمى خدمة الناس وتيسير مصالحهم فهو بلا قيمة-هذا الهدف-إن لم يكن الانسان قادرًا على تحقيقه سواء بامتلاك القدرة الجسدية، أو العقلية او الثروة أو العلاقات، وعليه نعود دومًا للداخل وهو موطن المنهل الذي لا ينضب ماءً زلالًا وسعيًا مشكورًا.
في فن الحياة قدرة على نسج العلاقات مع الناس، وفي علم الاتصالات الكثير مما يمكن أن نرسم به هذا الفن حيث حُسن الحديث وفن الإصغاء والقدرة على الاقناع أو الحوار ومعالجة الاشكالات وحل المعضلات واتخاذ القرارات في تقاطع ما بين فن أو علم الاتصالات وبناء العلاقات وعلم الإدارة وعلم الاجتماع وعلم التنظيم، وبناء الشخصية وبما يستحضر الاحسان وهو باب واسع يبدأ بالقول وينتهي بالعمل.
إن عرجنًا على بناء الذات (أو بناء الشخصية) فإنك تجد في المهارات الصلبة مدخلًا للحياة العملية (طب، تجارة، إدارة، هندسة، حاسوب، صيدلة، نجارة، تقانة ...) ولكنك لن تستطيع أن تطرق أبواب ذاتك وتنميتها ومع الناس الا بالمهارات اللينة أو الحياتية من حسن النظر للآخر وفهمه وإظهار اللطف والرحمة والحب والاقتراب في التعامل معه بشكل عام، ما لايعني إهمال المساحة الشخصية من احترام الذات وتوكيدها والثقة بها وتنمية ذلك.
إن قدرة الانسان على الاكتشاف قدرة كامنة بذاته متى ما فعّلها واشعل عقله الفضولي يستطيع أن يفتح أبوابًا ظن أنها مغلقة، فحين يكون التحفيز الخارجي عاملًا مساعدًا للتطوير الذاتي فإن العامل الداخلي بمنطق الفضول وحب الاستكشاف لما تحبه أو تفضله او تكترث وتهتم به هو ما يجب أن يجعلك شغوفًا بالمزيد كل يوم فلا تتوقف عن النهل من نبع الحياة قراءة وعملًا واشراقًا دائمًا.
الوسطية والمرونة والأصالة
في فن الحياة وسطية ومرونة وأصالة. فحيث استقرت المعايير ضمن المرجعية الفكرية والحضارية أصبح الكتاب (كتاب عقلك) مفتوحًا يفرق بين الحق والباطل وما بينهما، ويفرق بين الخطأ والصواب مرتبطًا بالظرف والموقف والمتغيرات وبذلك تصبح الأصالة او الرصانة أو المرجعية الثابتة مفتاح القرار ومنطلق التقييم. وفي المرونة قد يُفهم نقض للاصالة او الرصانة وفي هذا افتئات على الواقع، والحقيقة لأن المرونة تأتي ضمن التميّز المحمود الذي يقبل وجود الآخر وينفتح على أفكاره التي ليس بالضرورة أن تمثله اويقبلها على علاتها أو يقبلها كلها وإنما يتعامل معها بمنطق ذات الصراع الداخلي والشدّ الحاصل وبمنطق العقل النقدي والعقل الابداعي.
دعونا نأتي لفكرة الوسطية الأصعب والأشد لدى الانسان، فإن الاتباع أو التقليد أو الانقياد للآخر (العقل المغترب والعقل الغارب) هو السهل فأنت تضع حياتك بين يديه معطلًا أهم أداة خلقها الله فيك ولكنك بذلك ترتاح من عناء التفكير فتصبح مُقادًا منقادًا بلا حول ولا قوة وبإرادتك لتحقق الرضا أو ما تظنه السعادة! وفي الانقياد للحدين القصويين أي التساهل مقابل التشدد انهزام ذاتي، ومن هنا تأتى الوسطية صراط مستقيم لا يستطيع المعظم أن يسير عليه متزنًا لفترة طويلة ما يحتاج معه لدراسة وفهم وتطبيق فن تحقيق التوازن فيدخل من بوابة الوسطية الواسعة.
فن الحياة تعلم من المهد الى اللحد كما قال محمد صلى الله عليه وسلم فحيث يتعلم الانسان من القراءة العميقة المتواصلة مدى العمر، ومن تجارب الآخرين وهو الأولَى فيمكنه أن يتعلم أيضًا من اخفاقاته وفشله وهزائمه الداخلية وإن لم يتعلم من ذلك سقط في بئر سحيق من عذاب النفس والجسد وتآكل النفس، ولربما لا يستفيق منه الا على أرق وكآبة وأمراض نفسية، ونفسية- جسدية شتى وما قد يجعل من المرارة والخيبة والفشل والانهزام ملازمًا له.
إن استجلاب الهدف بعد تعريفه مهمة شخصية، الى جانب الهدف العام، وقد لا يساعدك أحد ببلوغه ورضاك عما اخترته أوسع من رضاك عما اختاره لك الآخرون، ومن هنا وجب النظر مطولًا في الهدف وتبنيه وكيفية الوصول اليه وبعقلية البدائل والخيارات المتغيرة على مدار حياة الفرد ما يحقق للانسان الفرح والرضا والنوال أي نوال الجائزة سواء الدنيوية او الأخروية.
الخاتمة:
دعوني ختامًا أضعكم في ملخص المقالة أو بعض الأفكار الرئيسة التي ربما تصلح لمحاضرة أو للعرض الشفوي او ضمن الشرائح دون التقليل من ضرورة قراءة النص كاملًا، فلك أن تستنتج غير ما هو بالملخص وستستفيد في سياقات أخرى حين قراءة النص كاملًا.
الحياة والسياسة في فلسطين
كل تفاصيل الحياة اليومية مرتبطة بالواقع السياسي وظلم الاحتلال، مما يفرض التفكير في بناء الذات والجماعة بروح مقاومة.
بناء الذات والجماعة: يقوم على قيم:
1. الانضباط
2. الالتزام
3. الإيمان
4. العطاء
5. الإحسان
6. الإخلاص
7. واحترام الوقت
8. النقد البنّاء
9. التفاؤل
القراءة والتجارب
القراءة العميقة والاستفادة من التجارب الذاتية وتجارب الآخرين تشكل مخزونًا حضاريًا ومعرفيًا يغذي الفكر والإبداع.
فن الحياة وأدب الإحسان
الفن = التميز والإبداع.
الأدب = القواعد والسلوك (الاتكيت، العلاقات، الاستماع...).
الجمع بينهما يحقق حياة راقية متوازنة.
التميّز المحمود والتميّز المذموم
المحمود: انفتاح، رسالة، تواصل، احترام الآخر دون إقصاء.
المذموم: استعلاء، عنصرية، تطرف، انغلاق، عدوانية.
الإسهام الحضاري المشرقي
الحضارة العربية الإسلامية (بالاسهامات المسيحية المشرقية) نتاج مشترك للعرب والمسيحيين المشارقة والكرد والأمازيغ، بخلاف العقل الغربي الاستخرابي الاستعماري الإقصائي.
فن الحياة = الرضا والسعادة والتوازن
يقوم على: التفكير والتأمل، بناء العقل والروح، تحقيق الهدف، التوازن الداخلي، استيعاب التنوع، والابتعاد عن الحقد والتعصب.
نموذج غزة (علي أبو ياسين) رغم الحرب والمأساة:
· اكتشاف معانٍ جديدة للحياة وقيمة الأشياء الصغيرة.
· إعادة ترتيب الأولويات والزمن.
· التمسك باللطف، العائلة، إسعاد الآخرين.
· تطوير الحواس والقدرة على الصمود.
· الانبعاث من المحنة أقوى وأصلب.
· الإحسان كطريق للحياة الطيبة
· البُعد عن النكديين، والمحرضين
يعني الإتقان في القول والعمل، مراقبة الذات، ضبط الأفكار، الانفتاح النقدي، وتحويل المأساة إلى فرصة للتعلم والنمو.
من الداخل إلى الخارج
يبدأ بناء الحياة من الذات (العقل، النفس، الروح) ثم إشعاعًا لدوائر الأسرة، الأصدقاء، المجتمع. ومن لم ينطلق من ذاته يعيش مقلّدًا أو تابعًا.
المهارات الحياتية
لا تكفي المهارات الصلبة (مهنة، علم) بل يجب تعزيزها بالمهارات اللينة التي منها: حسن الإصغاء، العلاقات، الرحمة، اللطف.
الوسطية والمرونة والأصالة
الأصالة = المرجعية الفكرية والقيمية.
المرونة = الانفتاح على الآخر.
الوسطية = صراط مستقيم لا هو التشدد ولا هوالانقياد الأعمى.
مكونات الحياة السعيدة
1. المشاعر الإيجابية
2. والمشاركة
3. والعلاقات الإيجابية
4. والمعنى (الهدف)
5. والإنجاز
الهدف والسعادة
على الإنسان أن يحدّد هدفه أو أهدافه بنفسه (وبذا يجد المعنى والرسالة)، ويسعى إليه أو إليها بعقلية بدائل وخيارات، فيحقق الرضا والفرح والجائزة الدنيوية والأخروية.