متطلبات "اليوم التالي": وحدة وقيادة ورؤية

الكاتب: د. دلال صائب عريقات
مرّ عامان أعادا رسم المشهد الفلسطيني والإقليمي، وطرَحا أسئلة صعبة حول معنى الحرية، وحدود الصمود، وسبل الخروج من الدوامة الدموية التي يعيشها شعبنا منذ نحو ٨ عقود.
إن الثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون خلال العامين الماضيين -من أرواح، ودمار، وتشريد- كشف حقيقة مؤلمة: غياب الحلول السياسية لا يولّد سوى مزيد من المآسي. والحلول الاقتصادية مهما كانت عوائدها الاستثمارية والمالية لا تغني عن الحلول السياسية. ومن هنا، فإن بلورة رؤية وطنية موحدة لم تعد ترفًا سياسيًا، بل مسألة وجودية لضمان بقاء المشروع الوطني وحماية ما تبقى من حلم الدولة الفلسطينية المستقلة.
تؤكد التجربة أن الانقسام الفلسطيني كان ولا يزال أحد أخطر الأسلحة التي استخدمها الاحتلال لتقويض إرادة الشعب. فقد أثبتت الأحداث أن غزة ليست كيانًا معزولًا بل جزء لا يتجزأ من فلسطين، وأن وحدة الجغرافيا والمصير شرط أساسي للتحرر، إن استعادة الوحدة الوطنية ليست شعارًا للاستهلاك السياسي، بل ضرورة أخلاقية ووطنية تمهّد لولادة مشروع فلسطيني جامع يعيد تعريف أولوياتنا الوطنية، وفي هذا السياق متوقع من منظمة التحرير الفلسطينية للحفاظ على صفتها التمثيلية أن تتوقف عن انتظارالحلول وتقوم بالمبادرة، من غير المنطقي أن نركب أي موج خارجي، لا بد من رؤية فلسطينية، ومتوقع منها أن تدعو لبدء الحوار الوطني من الداخل دون الحاجة لدعوات العواصم الأخرى. وفي هذا السياق، تبقى منظمة التحرير المظلة الشرعية الوحيدة التي توحّد الفلسطينيين في الداخل والخارج، وتمثل الإطار الذي ينبغي إعادة تفعيله بروح جديدة ومؤسسية تستوعب المتغيرات والتحديات الراهنة. فاختزال التمثيل في فصيل واحد، مهما بلغت شعبيته، يعني العودة إلى مربعات الانقسام، بينما وحدة القرار السياسي هي الضمانة الوحيدة لصون البوصلة الوطنية من التشتت والانحراف.
لقد أثبتت تجربة السنوات الماضية أن الوجود الفلسطيني فعل إرادة وليس قدرًا جغرافيًا. فالبقاء في هذه الأرض ليس مجرد مقاومة آلة الاحتلال، بل فعل وعي واستثمار للألم لبناء مشروع وطني يستند إلى العدالة والقانون الدولي. الشعب الفلسطيني اليوم أمام خيار تاريخي: إما تحويل الألم إلى أمل والعمل إلى رؤية، أو البقاء رهينة لدوامة الصراع المفتوح دون أفق.
وعلى الصعيدين العربي والإسلامي، أكدت التطورات أن القضية الفلسطينية ليست قضية حدود فحسب، بل قضية هوية وأمن إقليمي. لا يمكن للشرق الأوسط أن يعرف استقرارًا حقيقيًا دون إنهاء الاحتلال وضمان الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني. فالسلام لا يُبنى على أنقاض العدالة، ولا يمكن لأي اتفاقات إقليمية أو تطبيع أن تخلق أمنًا في ظل غياب الحل العادل.
أما على الساحة الدولية، فقد كشفت حرب غزة حجم ازدواجية المعايير في النظام العالمي، لكنها أيضًا كشفت زيف السردية الإسرائيلية التي كانت لعقود تُسوّق نفسها كضحية. اليوم، باتت إسرائيل مكشوفة أمام العالم كدولة تمارس إرهابًا منظمًا وإبادة جماعية تحت أنظار المجتمع الدولي. وهذا يضع العالم أمام مسؤولية أخلاقية وقانونية لإنهاء سياسة الإفلات من العقاب وفرض المحاسبة.
لقد خذلت الدبلوماسيةُ الإنسانيةَ في غزة، لكن لا غنى عن الدبلوماسية في القرن الحادي والعشرين. فالدبلوماسية هي الميدان الذي تُترجم فيه المعاناة إلى قرارات والتضحيات إلى مكاسب سياسية. المطلوب اليوم ليس إدارة الصراع، بل تغيير معادلة القوة عبر أدوات سياسية واقتصادية وقانونية قادرة على فرض واقعٍ جديدٍ لا يمتلك الفلسطينيون اليوم إلا التوحد والبناء على الزخم الدبلوماسي.
هدف الشعب الفلسطيني هو التحرر والكرامة وحق تقرير المصير، ولا يمكن أن يتحقق من خلال اعترافات بدولة دون سيادة حقيقية على الأرض، والمفاوضات يجب أن تكون وسيلة لتحقيق العدالة لا غاية بحد ذاتها. كما أن السلام العادل والمستدام لا يمكن أن يُفرض من طرف واحد، بل يحتاج إلى قيادة فلسطينية مسؤولة، وإرادة دولية جادة تُعيد الاعتبار للقانون الدولي وحقوق الشعوب.