الممرّ القاتل: طريق إنقاذ أم مقصلة سياسية لغزة؟

الكاتب: رئبال العرب – ياسر حرز
بين رائحة البارود وصرخات الناجين، وبين الأنقاض التي تحولت إلى شاهد على زمنٍ يتفتّت، يخرج إلى العلن مشروع غامض، اسمه “الممرّ الشمالي-الجنوبي”. مشروع يلمّعونه تحت أضواء “التنمية” و”الانفتاح”، لكنه في العمق يبدو كخنجر صامت، يقترب شيئًا فشيئًا من عنق القضية الفلسطينية.
فهل هو جسر نجاة يفتح غزة على العالم؟ أم أنه مقصلة سياسية تُنزِل السكين على آخر أوصال فلسطين؟
سرّ البريق… وخبث الظلال
لا أحد ينكر أن الفكرة براقة: ممرّ بحري من قبرص، أو جسر بري يربط غزة بالضفة. كلمات مثل “إنعاش الاقتصاد” و”كسر الحصار” تُستخدم كأغنية تطمئن آذان المتعبين. لكن خلف هذا الغناء، يتربّص واقع آخر: واقع إعادة هندسة للمنطقة وفق مقاييس إسرائيلية محضة.
• إسرائيل لا تريد حلًّا، بل إدارة أزمة. تُقدّم غزة كـ”كيان اقتصادي”، تحاصره برقابة دولية، وتُبقيه بعيدًا عن معادلة الدولة. نسخة مطوّرة من “فك الارتباط”، حيث يبقى القطاع خارج اللعبة السياسية، ويُستَخدم فقط لتخفيف الضغط الديموغرافي.
• مصر تقرأ الممر كتهديد أمني: أي ربط مباشر مع غزة قد يُحوّل سيناء إلى منفذ بديل أو وطن مؤقت للفلسطينيين. لهذا تُصرّ على أن تبقى حدود 1979 خطًا أحمر لا يُمَسّ.
• الأردن يخشى أن يُستَخدم المشروع كورقة دفن للدولة الفلسطينية، وفرض صيغة “الوطن البديل” الذي ظلّ يطارده لعقود.
• الفلسطينيون أمام مفترق طرق:
إن كان الممر تحت سيادة فلسطينية ويربط الضفة بالقطاع، فهو نصر تاريخي. أما إن كان طريقًا خارجيًا بلا عمق وطني، فهو فصل نهائي يجعل غزة “هونغ كونغ تحت الاحتلال”: مدينة عامرة بالتجارة، لكنها بلا روح سياسية، بلا سيادة، وبلا وطن يجمعها بالضفة.
من الخرائط إلى الواقع: حين يصبح الوهم جدارًا
ما كان يُتداول في الغرف المغلقة، بدأ يظهر على الأرض:
• ممر نتساريم شطر القطاع نصفين، وكرّس فكرة “الفصل الأمني”.
• الممرّ الجديد “Morag” يفصل رفح عن خان يونس، ويحوّل غزة إلى جزر صغيرة يمرّ بينها الجيش الإسرائيلي كالحاكم الفعلي.
• الممرّ البحري من قبرص، الذي يُسوَّق كمنفذ للمساعدات، ليس إلا أنبوبًا خارجيًا يُبقي غزة على قيد الحياة، لكن تحت “غرفة إنعاش” دولية محكمة السيطرة.
هكذا يصبح الممرّ أداة جراحية: يقصّ أوصال الوطن باسم “إعادة الإعمار”، ويحوّل غزة إلى كانتون اقتصادي منزوع الروح، والضفة إلى أرخبيل معزول بفعل الاستيطان ومخططات “E1”.
الامتحان الحاسم: سيادة أم تبعية؟
أيها القارئ، المعركة اليوم ليست على بناء طريق أو فتح ميناء. المعركة على المعنى نفسه:
• إن كان الممرّ بيد الفلسطينيين، ويمتد ليصل غزة بالضفة، فهو جسر الوحدة.
• أما إن كان تحت مفاتيح إسرائيلية أو وصاية دولية، فهو شريان مقطوع، يضخّ حياة صناعية تكفي فقط لإبقاء غزة “قابلة للإدارة”، لا قابلة للتحرر.
كلمة الفصل:
الممرّ القاتل ليس إنقاذًا، بل اختبارًا للوعي السياسي:
• هل نقبل بممرّ يبني “اقتصادًا بلا سيادة”؟
• أم نفرض أن يكون “شريانًا وطنيًا” يعيد الحياة إلى جسد فلسطين الممزق؟
غزة اليوم ليست على مفترق طرق عمراني، بل على مفترق مصير:
إما أن تُصان كقلب فلسطين النابض، أو تُسلخ لتصبح جسدًا غريبًا يعيش بدم مستعار.