الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:55 AM
الظهر 12:37 PM
العصر 4:11 PM
المغرب 7:01 PM
العشاء 8:18 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

إنذار من الحسبة!!

الكاتب: رامي مهداوي

في كل جمعة، اعتدنا أنا وصديقي الشاعر والروائي ماجد أبو غوش "العمدة"، وصديقنا المشاكس إياد شاهين، أن نمضي معًا إلى الحسبة. لم تكن مجرد رحلة تسوق، بل كانت فسحة لنسمع نبض الناس، ونقرأ في وجوههم حكايات الصبر والكدّ، ونرى في ازدحام السوق صورة عن مجتمع رغم الفقر، ظلّ متمسكًا بالحياة.

غير أن مشهد هذا الأسبوع كان قاسيًا إلى حد الصدمة. الحسبة بدت فارغة، خالية إلا من بسطات قليلة، وخضار راقدة كأنها تنتظر زبائن ضلّوا الطريق. لم نسمع تلك المساومات المعتادة، ولا ضحكات الأطفال وهم يركضون بين الأزقة. كان الصمت سيّد المكان.

وقفنا متأملين، فقال ماجد بلهجة شاعر يختلط فيها الحزن بالسخرية: "الحسبة كانت ميزان الفقراء… إذا فرغت، فهذا يعني أن المأساة صارت عامة."

أجاب إياد وهو ينظر إلى الباعة الذين جلسوا متجمدين خلف بضاعتهم:

"كيف يأتي الناس وهم بلا رواتب؟ الموظف الحكومي، الذي كان بالكاد يسد رمقه، صار بلا راتب منذ أشهر. من أين له أن يملأ سلة خضار؟"

اقتربنا من أحد الباعة، رجل في الخمسين من عمره، وجهه متعب ويداه مشققتان من العمل في الحقول. سألناه عن حاله، فأجاب بتنهيدة طويلة:

"أحضرنا البضاعة من الفجر… بالكاد بعنا شيئًا. الناس تمر من هنا وتكتفي بالنظر. لم يعد لديهم ثمن كيلو بندورة أو خيار. كيف سأعود إلى البيت وقد خسرت رأس المال؟"

كانت كلماته أبلغ من أي تقرير اقتصادي. الألم بادٍ في عينيه أكثر من صوته. لقد تحولت الحسبة، التي كانت مركز حياة اجتماعية نابضة، إلى مسرح للخذلان. لا بائع يربح ولا زبون يشتري، والجميع عالقون في دائرة عجز لا مخرج منها.

هذا المشهد يكشف المأساة الأعمق: أزمة سياسية واقتصادية خانقة تدفع المجتمع إلى حافة الانهيار. موظفو القطاع العام بلا رواتب، والطبقة الوسطى تنكمش حتى صارت جزءًا من طوابير الفقراء، والتاجر الصغير ينهار كما المزارع، بينما المواطن يقف عاجزًا أمام أبسط احتياجات بيته.

الحسبة لم تكن فقط مكانًا للبيع والشراء، بل كانت مساحة للتضامن الشعبي، للقاءات العابرين، للتنفس الجماعي وسط قسوة الحياة. واليوم، بفعل الفراغ، فقدت روحها. غياب الناس عنها ليس مجرد غياب عن السوق، بل عن فضاء إنساني كامل كان يُبقي المدينة حيّة.

غادرنا حسبة رام الله ونحن نحمل وجعًا صامتًا، إدراكًا أن ما رأيناه أكبر من مجرد سوق فارغ. كان المشهد جرس خطر يدق بعنف، يعلن أن المجتمع يقترب من لحظة انهيار شاملة: موظفون بلا رواتب، تجار يواجهون الخسارة، أسر بلا أفق، ومدينة تفقد روحها.

وإذا كان هذا حال حسبة رام الله، عاصمة السياسة والاقتصاد والإدارة، فماذا عن باقي المحافظات البعيدة والمهمّشة؟ ما بالكم بالأسواق في طولكرم، أو الخليل، أو نابلس، أو القرى والمخيمات التي تعيش على الهامش؟ إن كانت الحسبة هنا شبه فارغة، فكيف تبدو الحسبة هناك؟

إن ما يجري اليوم ليس مسألة أسعار أو ركود عابر، بل شهادة دامغة على عجز السياسات وانفصال المسؤولين عن واقع الشارع. وهنا لا بد من قول الحقيقة بوضوح: على المسؤولين أن ينزلوا من مكاتبهم المكيفة إلى الأسواق، أن ينظروا في عيون الباعة والمواطنين، أن يسمعوا وجع الموظف المحروم من راتبه، وأن يشعروا بما يشعر به الناس وهم عاجزون عن شراء أبسط احتياجاتهم.

الحسبة الفارغة ليست مجرد صورة اقتصادية، بل ناقوس خطر سياسي واجتماعي، وإذا لم يُسمع جيدًا اليوم، فسيُسمع غدًا بصوت أشد وأقسى....

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...