من القدس وإلى القدس… منبر القلم الحر

الكاتب: د. دلال صائب عريقات
من لا يذكر مشهد "القدس" على مائدة الصباح، لا يعرف كيف يبدأ الفلسطيني يومه. فمن بيت لبيت، ومن جيل لجيل، كانت الجريدة مرآتنا وبداية يومنا من الأرض المحتلة.
منذ طفولتي، كان اسم "القدس" يعني أكثر من مدينة، وأكثر من جريدة. كان يعني البيت، الهوية، والذاكرة التي لا تخون. كنت أرى الجريدة تصل إلى بيتنا كل صباح، كأنها زائر وفيّ يأتي محمّلاً بأخبار الوطن، بوجع الناس، وبكرامة الحرف.
كبرتُ على حبر القدس، ورافقتُ حروفها كما رافقت والدي، الدكتور صائب عريقات، في دروب السياسة والنضال، فتعلمت أن الكلمة موقف، وأن التوثيق مسؤولية، وأن الكتابة ليست ترفًا، بل فعل مقاومة. "القدس" لم تكن فقط صحيفة نقرأها، بل كانت جزءاً من نسيج الحياة اليومية لكل بيت فلسطيني، شمالاً وجنوبًا، في الوطن والشتات.
في كل عدد من أعدادها، كانت "القدس" تحمل وجوه الناس، أصوات الأمهات، وصايا الشهداء، وهمسات الأسرى. كانت تسجل التاريخ كما هو، بلا تجميل ولا تزوير، وتقدّمه بأمانة لجيل بعد جيل. كانت عين الفلسطيني على العالم، وعين العالم على فلسطين.
محمود أبو الزلف، الرجل الذي رأى في الصحافة الوطنية أداة لبناء الوعي، أسّس منبرًا بقي صامدًا رغم كل التحديات، وكان من القلائل الذين أدركوا مبكرًا أن الإعلام ليس فقط ناقلًا للخبر، بل حاملًا لرسالة الكرامة الوطنية. واليوم، يواصل أبناؤه وليد، ومروان، وزياد وكارولين، ووالدتهم إيلين أبو الزلف، متعها الله بموفور الصحة والعافية، هذا المشوار العظيم بكل وفاء ومسؤولية، حاملين راية والدهم ومخلصين لإرثه الذي أصبح جزءًا من الوعي الوطني الفلسطيني.
أما والدي، فكان يؤمن أن الكلمة الحرة لا تقل أهمية عن أي مفاوضات أو قرارات سياسية، وكان يرى في القدس منبرًا يعكس نبض الناس، ويوصل الصوت الفلسطيني إلى حيث يجب أن يُسمع. وكان من أوائل من أسّسوا لزاوية حديث القدس، التي أصبحت على مر السنين مساحة حرة للنقاش، وتحليل القضايا الكبرى التي تمس مصير الوطن والناس.
واليوم، أواصل هذا الإرث بفخر، وأخطّ مقالي الأسبوعي التطوعي في القدس للسنة العاشرة على التوالي كجزء من مسؤوليتي الاجتماعية والوطنية تجاه قضيتي. أكتب لأنني أؤمن بأن فن الكتابة أداة لرفع الوعي، وسيلة لاستدامة الفكر، وجسرٌ يربط بين الأجيال في معركة الذاكرة والانتماء.
القدس هي منبر الكاتب والمفكر الحر، وهي صوت القلم غير المأجور. من يكتب في القدس، يكتب بعقله وضميره، لا بإملاء من أحد، ولا بثمن. هي عنوان الكاتب الحر، والمرآة الصادقة لنبض شعب لا يساوم على حريته وكرامته.
في هذا العدد المميز، العدد عشرين ألف، لا يسعني إلا أن أقول: شكراً للقدس، منبر الكرامة، ومرآة الوطن. وخلف كل عدد، يقف فريق تحرير لا يقل شجاعةً عن أيّ مقاوم على الأرض، جيش تحرير من نوع آخر، يحمل القلم سلاحًا، والحقيقة راية، ويخوض معركة الكلمة كل يوم بإصرار لا يلين. شكراً لكل من خطّ حرفاً بصدق، ولكل من قرأ وهو يشعر أن في هذه الجريدة صوته، وذاكرته، ومستقبله. نعم، الكتابة مقاومة، والتوثيق مسؤولية، ومن القدس، ولأجل القدس، ستبقى الكلمة سلاحنا، والحبر وعدنا، والرسالة أمانة لا تسقط بالتقادم.
............
محمود أبو الزلف، الرجل الذي رأى في الصحافة الوطنية أداة لبناء الوعي، أسّس منبرًا بقي صامدًا رغم كل التحديات، وكان من القلائل الذين أدركوا مبكرًا أن الإعلام ليس فقط ناقلًا للخبر، بل حاملًا لرسالة الكرامة الوطنية.