الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:44 AM
الظهر 12:39 PM
العصر 4:15 PM
المغرب 7:14 PM
العشاء 8:34 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

تدوير الاستعمار 

الكاتب: هزار حسين

منذ أن خطّ إدوارد سعيد تحليله الجذري للاستشراق، عام 1978، كان واضحًا أن المعركة لم تكن يومًا بين جيوش ودول فقط، بل بين روايات وخطابات، بين من يكتب التاريخ ومن يُكتب عنه. لم يكن سعيد مجرّد ناقد أكاديمي يعيد ترتيب الأوراق الفكرية، بل كان مُفسدًا كبيرًا للحفلة الاستعمارية، أخرج دفاتر الإمبراطوريات ليكشف كيف صنعت الشرق بعيونها، كيف لم تكن المعرفة إلا خادمة مطيعة للسلطة، وكيف أن المثقف حين ينحني أمام المال والجوائز، يصبح خادمًا في بلاط الاستبداد، لا ناطقًا باسم الحقيقة.  

اليوم، وبعد عقود من تفكيك سعيد لهذا الوهم، لم يتوقف العالم عن إنتاج الأكاذيب. على العكس، لقد صقلها، جعلها أكثر لمعانًا، أقل فجاجة، وأكثر فعالية في تدمير أي محاولة لإنتاج معرفة حرة. لم يعد الاستعمار بحاجة إلى الضابط البريطاني الذي يلوّح بسوطه، بل يكفيه أكاديمي أنيق في جامعة مرموقة، وصحفي “محايد”، و”ناشط حقوقي” يتقن لغة التمويلات الدولية.  

حين كتب سعيد الاستشراق، فضح كيف صُنعت صورة “الشرق المتخلّف” في عقول المستعمرين، وكيف صيغت الأكاذيب الاستعمارية بلغة البحث الأكاديمي والأنثروبولوجيا. واليوم لم تعد الإمبراطورية بحاجة إلى مستشرق يجلس في مكتبه ليكتب عن “الشرق البدائي”، فقد أصبح لديها منظومة إعلامية كاملة، ومراكز بحثية تتلقى تمويلًا سخيًا، وجيوش من “الخبراء” الذين يتحدثون عن العالم العربي بلهجة عالمية مُحايدة، في حين أنهم مجرد وكلاء لإعادة إنتاج الرداءة.   
مثالًا صارخ الوضوح؛ كيف يُطرح الصراع الفلسطيني في الصحافة الغربية؟ الفلسطيني ليس إنسانًا له تاريخ وقضية، بل هو إما “إرهابي” أو “ضحية تستحق الشفقة” وفق الحاجة السياسية للحظة. الاحتلال ليس استعمارًا استيطانيًا، بل “نزاع معقد”، والمجازر ليست جرائم، بل “عمليات دفاعية“، ويُوضع القاتل والقتيل على ميزان ”الطرفين“!

 هذا ليس مجرد تحيّز إعلامي، بل استشراق مُعاد تصميمه، حيث تتحكم شركات الأخبار وخوارزميات الإنترنت في سردية القضية، تمامًا كما كان يفعل المستشرقون القدامى، ولكن بأساليب أكثر تطورًا.  

هكذا، تُمحى الجرائم عبر الكلمات، ويتم تحويل الضحية إلى مجرم بلمسة تحريرية بسيطة.  

لكن هذا ليس جديدًا، بل هو امتداد للاستشراق، حيث تُعاد صياغة الشرق في المخيلة الغربية وفق الحاجة السياسية للحظة الراهنة.

لم يكن سعيد يُعرّف المثقف بوصفه خبيرًا يُدلي برأيه على الشاشات، بل بوصفه متمردًا، خارجًا عن الإجماع، مشاكسًا للسلطة حتى لو كلّفه ذلك مكانته. لكن، ماذا نفعل في عصر أصبح فيه المثقف “شريكًا” في صناعة القرار، يحصل على تمويل “لإنتاج المعرفة”، ويحضر مؤتمرات ناعمة تناقش “التغيير” داخل منظومة لا تريد أي تغيير؟  

خذ أي ندوة أكاديمية عن فلسطين تُعقد في جامعة غربية كبرى. ستجد النقاش محتدماً حول “أخلاقيات المقاومة”، أو “ضرورة إيجاد حلول سلمية”، لكن قلّما يُطرح السؤال الحقيقي: ماذا عن الاستعمار نفسه؟ متى يتم تفكيكه؟ بل تجد أن بعض المثقفين العرب أنفسهم أصبحوا جزءًا من هذه اللعبة، يخوضون في التفاصيل بدلًا من مواجهة الجذر، يحوّلون القضية إلى “موضوع بحثي” بدلًا من موقف سياسي.  

كان  ادوارد سعيد يدرك أن الهيمنة الثقافية لا تتم فقط عبر الكتب والدراسات، بل عبر الصورة والسينما والموسيقى والفنون. ولهذا، فإن الاستعمار لم يكتفِ بإعادة تشكيل التاريخ، بل ذهب لإعادة تشكيل الخيال نفسه. كيف يُقدم العربي في الأفلام والمسلسلات العالمية؟ كإرهابي، أو بائع نفط فاسد، أو ضحية ساذجة. كيف تُحذف الروايات الفلسطينية من المكتبات؟ عبر آليات ناعمة من الرقابة، حيث لا تُمنع الكتب بشكل صريح، بل يتم تجاهلها، عدم تسويقها، دفعها إلى الهامش.  
والأدهى هو كيف تُستعمر ثقافتنا من الداخل. حين يتم الترويج لبرامج ترفيهية سطحية، ومسلسلات تكرّس فكرة العربي التائه بين جهله وعنفه، وموسيقى تقتل الحس النقدي لصالح الإيقاع السريع. هذه ليست مجرد خيارات ثقافية، بل سياسات متعمدة لإنتاج وعي زائف، لجعل الاستعمار غير مرئي، لجعل المقاومة تبدو غير ضرورية، لجعل القضايا المصيرية مجرد خلفية غير مهمة في مشهد “الحداثة”.  

إذا اردنا التحدث بوضوح، إذا كانت الصحافة الأكاديمية والسياسة الرسمية تصنع الخطاب السائد، فإن الإنترنت اليوم هو الأداة الكبرى للتحكم في الوعي.

وهذا الاستشراق الرقمي ليس عشوائيًا. حيث تتحكم الخوارزميات في مدى وصول الأفكار، وحيث يمكن إسكات المثقف أو الناشط ليس بالسجن، بل بمجرد تقليل وصول منشوراته، أو حظر حسابه، أو جعله غير مرئي في بحر المعلومات.  

اليوم، في عالم يزداد تداخلاً، حيث يُعاد تشكيل الخرائط السياسية والثقافية بأدوات أكثر دهاءً مما عرفه الماضي، يظل فكر إدوارد سعيد علامة فارقة في فهم آليات القوة والسيطرة والهيمنة الثقافية. لم يكن سعيد مجرد ناقد أدبي أو أكاديمي معنيٍّ بنظريات ما بعد الاستعمار، بل كان مثقفًا عضويًا بالمعنى الغرامشي للكلمة، يحمل فكره سلاحًا ضد الإمبريالية الثقافية التي تُلبس نفسها أثواب الحداثة بينما تمارس أكثر أشكال السيطرة بدائية.

ومع استمرارية الاحتلال والاستعمار بأشكاله المتحوّرة، ومع تصاعد الخطاب الاستشراقي بنسخٍ أكثر دقةً، تبدو الحاجة مُلحّةً إلى إعادة قراءة سعيد كقارئٍ متنبّهٍ لمستقبلٍ تشكّله القوى ذاتها التي فضح آلياتها، لانه يذكرنا على الدوام، بأن الاستقلالية الفكرية ليست ترفًا، بل ضرورة، وإن دور المثقف ليس فقط إنتاج المعرفة، بل حمايتها من التدجين، من التحول إلى سلعة قابلة للاستهلاك السريع. وفي ظل عالم تُحدد فيه الترندات أولويات النقاش، يبقى صوت المثقف الحقيقي هو ذاك الذي يرفض الامتثال، الذي يزعج ويُحرج ويطرح الأسئلة غير المريحة.  

فإن الخطر الحقيقي ليس فقط في الاحتلال العسكري، بل في احتلال الخيال. وسعيد، قبل غيره، كان يعرف أن من يسيطر على الخيال، يسيطر على العالم.
لم يكن إدوارد سعيد ليقبل بفكرة الثقافة بوصفها حقلًا منعزلًا عن السياسة. على العكس، في كتابه الثقافة والإمبريالية (1993)، بيّن كيف كانت الروايات الكلاسيكية التي تبدو بعيدة عن السياسة، مثل روبنسون كروزو أو كيم لرديارد كبلينغ، محمّلةً بخطابات الهيمنة والاستعمار. الأدب لم يكن بريئًا، والثقافة لم تكن مستقلة، بل كانت مسرحًا تتجلى فيه مصالح القوى الكبرى. رَفض تدجين المثقف الفلسطيني وتحويله إلى شاهد زور داخل المسرحية الإعلامية، وعرّف المثقف الحقيقي في صور المثقف،بأنه ذاك الذي يُربك، يُزعج، يرفض التواطؤ. 

وإن كانت الإمبراطوريات الكلاسيكية قد اعتمدت على “العلماء” لإنتاج سردياتها، فإن الإمبراطوريات الحديثة توظّف “الخبراء”، و”المحللين”، وأحيانًا حتى “المنظمات الحقوقية” لتقديم رواية ناعمة للاستعمار. وإن كان العصر الذي نعيشه قد تجاوز الاستشراق التقليدي، فإنه لم يتجاوز الحاجة إلى النقد الجذري، إلى تفكيك السرديات السائدة، إلى إعادة تعريف دور المثقف في عصر الإعلام الموجَّه. 

الا أن السؤال لم يعد  “كيف نشرح للعالم ما يحدث؟”، بل “كيف نكسر احتكار العالم لروايتنا؟”. فالمعركة لم تكن يومًا حول من يمتلك السلاح فقط، بل حول من يروي القصة، ومن يجرؤ على تسميتها باسمها.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...