غزة: مجازر البث المباشر

الكاتب: رامي مهداوي
ما يحدث في غزة ليس مجرد حرب، بل هو فصل واضح من فصول الإبادة الجماعية الموثقة بالصوت والصورة. لليوم تواصل إسرائيل قصفها الجوي والبري والبحري على منطقة مكتظة بالمدنيين، أغلبيتهم الساحقة من النساء والأطفال. الأرقام وحدها تحكي الكارثة: أكثر من 55,000 شهيد، 80% منهم من النساء والأطفال، ومعدل قتل يومي يتجاوز 355 مدنياً، بالإضافة إلى أكثر من 2000 جثة ما تزال تحت الأنقاض. هذه الأرقام، بمقاييس التاريخ الدموي، تجعل غزة المدينة الأولى عالمياً من حيث كثافة المذابح بحق المدنيين في فترة زمنية قصيرة وبقصف متواصل.
هناك مدن قُتل فيها عدد أكبر من المدنيين في قصف جوي، مثل هامبورغ، ودرزدن، وهيروشيما، ونجازاكي، لكنها كانت خلال الحرب العالمية الثانية، أي في إطار حرب شاملة. كانت هذه المدن تحوي مصانع وجيوش وبنية عسكرية. أما في غزة، فإن القصف يستهدف المدنيين، عن سابق إصرار وتصميم، وتبلغ نسبة الأطفال والنساء بين الشهداء 80%، وإذا أضفنا كبار السن، تصبح الصورة مرعبة.
هذه المذابح تمثل أول جرائم ضد الإنسانية تُرتكب وتُنقل على الهواء مباشرة لساعات وأيام، دون توقف، في مشهد لم يشهده العالم من قبل. خلال حصار سراييغو، عندما قصف الصرب السوق فقتلوا 43 شخصاً، تحرك الناتو عسكرياً. أما في غزة، فعندما قُصفت مستشفى المعمداني وأستشهد 500 مدني، لم يتحرك أحد، بل وُجّه الاتهام إلى الضحية.
إن ما يميز مذبحة غزة اليومية أنها تحظى بدعم مباشر من الديمقراطيات الغربية. الدعم ليس سياسياً فقط، بل عسكري وإعلامي أيضاً، ضد رغبة شعوب هذه الدول التي تخرج إلى الشوارع تنديداً بالمجزرة. في فيتنام، أدت مذبحة واحدة (ماي لاي) إلى ضجة عالمية، أما في غزة، فإن سلسلة من 500 مذبحة تمر دون مساءلة، بل تُبرر.
خلال حصار سراييغو، قُتل 5434 مدنياً خلال 1425 يوماً، أي 4 يوميًا. في غزة، يُقتل ما لا يقل عن 355 مدنياً يوميًا، دون احتساب آلاف العالقين تحت الأنقاض. في ستالينغراد، قُتل 40 ألف مدني خلال 162 يومًا، أي 247 مدنيًا يوميًا – أقل مما يجري في غزة. في الفلوجة الثانية، قُتل 1400 مدني خلال 46 يومًا (31 يوميًا). في الموصل، قُتل 10 آلاف مدني خلال 9 أشهر (37 يوميًا).
حتى في ذروة الحرب على أوكرانيا، لم تتردد روسيا في فتح ممرات إنسانية. أما في غزة، فإن إسرائيل لا تكتفي بتدمير البيوت فوق ساكنيها، بل تحاصر الحياة ذاتها، فتمنع الماء والدواء والكهرباء والطاقة، في تجسيد صارخ لعقاب جماعي ممنهج. ما يجري ليس خطأ عرضياً في التقدير أو نتيجة لانحرافات تكتيكية، بل هو تعبير دقيق عن عقيدة سياسية إسرائيلية متعمدة، تشارك في صناعتها الحكومة، ويطبقها الجيش، ويباركها قطاع واسع من الجمهور، وتوفر لها الغطاء الكامل قوى غربية تسعى لرد الاعتبار لصورة "إسرائيل التي لا تُهزم". إنها حرب لا تستهدف فقط المقاومة، بل الوجود الإنساني الفلسطيني برمته.
من يقرأ التاريخ يجد بأنه لم تلتزم إسرائيل بأي من قوانين الحرب الدولية. بفضل الغطاء الأميركي غير المشروط، ظلت دولة فوق القانون، لا تخشى المساءلة أو العقاب. لكن مجازر غزة لن تُنسى. إنها وصمة في جبين البشرية، وفي سجل الديمقراطيات التي تواطأت على مرأى ومسمع من العالم بأسره.