الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:15 AM
الظهر 11:45 AM
العصر 3:14 PM
المغرب 5:59 PM
العشاء 7:15 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

دوستويفسكي و "الجحيم الأرضي"، قراءة في واقع شعوبنا

الكاتب: مروان أميل طوباسي

قبل أيام كنت قد قرأت قصة أرسلها لي شقيقي غسان وهو المغرم بالرواية والأدب الإنساني ، كان قد كتبها فيودور دوستويفسكي عام ١٨٤٩ على جدار زنزانته وهو محكوم بالإعدام زمن روسيا القيصرية قبل الثورة هنالك ، قصة قصيرة أظهرت عبقرية الفكر الإنساني لهذا الروائي العظيم . من خلال الحوار بين الشيطان والكاهن . كشف دوستويفسكي في قصته كيف أن "الجحيم" ليس مجرد تهديد في الآخرة ، بل واقع يعيشه الفقراء والمضطهدون يومياً على الأرض والمعذبون فيها . هذه القصة تحمل إسقاطات عميقة على واقع  شعوبنا اليوم ، خاصة على واقعنا الفلسطيني ، حيث تعيش شعوب المنطقة أشكالاً مختلفة من "الجحيم الأرضي".

في مشرقنا العربي الذي أسموه بالشرق الأوسط حتى يتسنى لهم أعتبار المستوطنة الإستعمارية الأسرائيلية جزء منه ، يعاني الملايين من الفقر والجوع ، اشكال القمع ، التمييز والحروب التي تفرضها أنظمة مستبدة ومصالح حكامها التي تعزز سلطة الرجل الواحد والتي لا تريد ان تمتلك الارادة السياسية وحتى الأخلاقية في مواجهة الأحتلال الإستعماري الذي يتمدد اليوم في مشرقنا العربي بمساندة سياسات دولية غير عادلة لتنفيذ ما أسموه بالشرق الأوسط الجديد .
 تماماً كما أشار دوستويفسكي إلى العمال المقهورين والفلاحين الذين يعانون من الظلم والقهر اليومي ، فإننا نجد في منطقتنا شعوباً تعيش تحت وطأة أنظمة تستغل الدين أو الشعارات القومية لتبرير قهرها .

المجتمع الدولي بغربِه الإستعماري ، على غرار المراقب الذي يحمل السوط في القصة ، يدعم  هذه الأنظمة أو يشارك في تكريس الظلم عبر ديكتاتوريات مختلفة الأشكال والإستعمار والحروب والأحتلال . اللاجئون والمشردون والمضطهدون اليوم يمثلون أولئك الذين أشار إليهم دوستويفسكي في الزنازين المظلمة والمصانع والمزارع ، يعيشون في ظروف قاسية بلا أمل في حل قريب أو ظروف أفضل .

في فلسطين ، يتحقق "الجحيم الأرضي" بشكل مضاعف . الأحتلال الإسرائيلي يعمّق معاناة شعبنا الفلسطيني عبر سياسات الأحتلال الأستيطاني من التهجير القسري ، الضم ، القمع والقتل اليومي ، الحصار وحرب الإبادة والاقتلاع . الفلسطينيون في غزة يعيشون الجحيم الارضي يومياً بفعل جرائم حرب الأحتلال غير المسبوقة ومن جعل مكانهم غير قابل للحياة الذي يحرمهم من أدنى مقومات الحياة نفسها المفقودة بكل المعاني . فيما يعاني سكان مخيمات الضفة ممن يجري الآن من تهجير قسري لأكثر من ستين ألفا من بيوتهم ، كما يعاني باقي الشعب الفلسطيني في كل زوايا الوطن التاريخي من سياسات القمع والهدم والقتل ومن الأستيطان والضم والتمييز العنصري والفوقية . حتى اللاجئون الفلسطينيون في الشتات ، الذين هُجّروا قسراً منذ جريمة النكبة يواجهون مصيراً لا يقل قسوة عن الشخصيات في زنزانة دوستويفسكي على أثر لعنة الشتات القسري .

على الجانب الآخر ، أصبحنا اليوم نفتقد نحن بالحركة الوطنية الفلسطينية رؤية سياسية واضحة متكاملة وجامعة موحدة للتخلص من مشاريع الأحتلال الذي يريدونه مستداماً لمنع قدوم أيام افضل يتوجب أن نعيشها بعد جحيم أرضي دنيوي طال أمده وتطورت أشكاله منذ قرن من الزمن . هذا في وقت يتزايد فيه أستغلال الدين الحنيف والشعارات السياسية او اللهث وراء وعود سراببة أمريكية زائفة من حلول اقتصادية أو أمنية دون خطوات سياسية ملموسة لتحقيق الحرية والعدالة والكرامة في اطار حقوقنا غير القابلة للتصرف .

 ان قصة دوستويفسكي تحمل رسالة واضحة ، مفادها ان الجحيم الحقيقي ليس في المستقبل البعيد أو في الآخرة ، بل في الظلم الأرضي الدنيوي  الواقع هنا والآن . ما تحتاجه شعوبنا العربية وفي فلسطين تحديداً ليس مزيداً من التهديدات بالجحيم الأرضي أو الوعود بالأمل في المستقبل والآخرة ، بل سياسات تُعيد للإنسان حريته وكرامته الإنسانية على الأرض الآن الآن وليس غداً كما غَنت فيروز .

في فلسطين ، يتطلب ذلك إعادة بناء ووضوح المشروع الوطني الفلسطيني المعاصر ، بتعزيز الوحدة والشراكة بين الكُل الوطني ، مع التركيز على استراتيجيات سياسية مقاومة عقلانية فعّالة تُعيد الإعتبار لمعنى التحرر الوطني الديمقراطي تحافظ على بقاء وصمود شعبنا كشكل من المقاومة ، تسعى لإنهاء الأحتلال أولاً وتحقيق العدالة والكرامة الإنسانية دون ان يتمنى البعض الهزيمة للبعض الآخر من شعبنا بغض النظر عن الخلاف او الإتفاق بين الأطراف ، والتي تحتاج تجربتهم الى المراجعة والتقييم النقدي كما تحتاج أيضا كذلك تجربة ما بعد أتفاق أوسلو وصولاً الى ما نحن عليه اليوم  .

 أما على مستوى المشرق العربي ، فالحل يبدأ من وجود نظم ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وتبتعد عن الغزوات والطائفية والأثنية وفرض انظمة الأمر الواقع بالحكم دون انتخابات او تكريس مراكز قوى تحت شعارات "دينية زائفة" أو "مقولات قانونية" يقال بأنها تسمح ببقاء القديم على قدمه . نحتاج ليس فقط الى أنظمة ديمقراطيات انتخابية وشعبية تضع حداً للأستغلال والقمع وتداعيات الإستعمار القديم والجديد ، بل الى ثقافة مواطنة ومقاوِمة شعبية حقيقية واعية عقلانية في مواجهة محاولات كي الوعي أو ثقافة الهزيمة . 

قصة دوستويفسكي ليست مجرد خيال أدبي ، بل انعكاس للواقع المُعاش . شعوب مشرقنا العربي وخاصة في فلسطين تعاني من جحيم الهيمنة الأمريكية وتوحش العربدة الصهيونية والعنصرية وغياب المشروع العربي الموحد واستمرار وجود أشكال الانقسام السياسي والأجتماعي التي تُفاقم معاناة شعبنا الى جانب غياب الرقابة والمسائلة واكتمال الأجور والغلاء الفاحش والبطالة ، وعدم القدرة على حماية شعبنا بل ووجود السلطة الوطنية نفسها التي أعتقدنا بانها طريقنا الى الدولة . وذلك في ظل متغيرات متسارعة قادمة على الأرض يتم الافصاح عنها من حكام الأحتلال اليوم بوضوح امام العالم من العرب والعَجم والتي لم تُبقي مصداقية او مكانا لمبدأ حل الدولتين الأممي الذي جعلوه في مهب الريح واستُبدل بمشروع اسرائيل الكبرى . 

التغيير يتطلب مواجهة هذا الجحيم بصدق أنتماء وشجاعة موقف تكرس المصلحة العامة والقرار الوطني المستقل ، والبدء بسياسات تبني العدالة الإجتماعية والديمقراطية والمشاركة  والكرامة وصولاً الى الحرية والأستقلال الوطني بدلاً من إستغلال الدين أو صراع الشعارات والخطابات بين الأنتصار والهزيمة لفرض المزيد من قهر الذات عبر الأنتظار .

 التغير يتطلب تجسيد معاني وَطن حُر لشعبٍ مِنَ الأحرار كما كان يؤكد الزعيم الخالد ياسر عرفات ، والأعتبار لما جاء في نص وثيقة أعلان الإستقلال بأن الشعب هو مَصدر السلطات ، وبأن الدين للّه والوطن للجميع كما صرخَ سعد زغلول ، والوعي بأن ثقافة المقاومة أذا ساوت بين القاتل والقتيل أنهزمت في عدميتها ، فأنتصر القاتل ، كما كتب المُفكر الشهيد حسين مروة "مهدي عامل" .

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...