"الزراعة التحررية" المفهوم الضروري للتنمية الزراعية

الكاتب: جبريل محمد
حين كتب "باولو فريري" عن التعليم التحرري، فقد أسّس لمفاهيم تحررية، حيث اختار التعليم - وهو ميدانه - ليقدم أنموذجه النظري حول التعليم المتحرر من قوالب الاستعباد الرأسمالي أو الاستعماري، مناديًا بتعليم نشط يعزز قدرة الإنسان على التفكير والمحاكمة العقلية والإبداع دون قيود، وبما يخدم تحرر الإنسان والمجتمع من إخضاع التعليم لحاجات السوق الرأسمالية أو لتوجهات المستعمِر نفسه.
تُرى هل يمكن تطبيق مفهوم التعليم التحرري على الزراعة؟ فإذا كان التعليم مهتمًا بإنتاج المعرفة وتطويرها وبناء الإنسان خارج كل أدوات الاغتراب، فإن الزراعة تهتم بتوفير الاحتياجات الأساسية لقوت الناس في المقام الأول، بما يعني تحقيقهم لإحدى درجات الحاجات البشرية وفق هرم ماسلو، إذ يقع توفير الغذاء والكساء في قاعدة هذا الهرم ومن دونه لا يستطيع الإنسان أن يفكر باحتياجات أخرى، كون الغذاء هو مصدر إعادة إنتاج الإنسان لذاته الفاعلة في علاقتها مع بيئتها الطبيعية والاجتماعية، والغذاء بعد تطور البشرية لم يعد التقاطًا وجمعًا أو صيدًا، بل أصبح فعلاً إنسانيًا واعيًا يتطور بالممارسة الحياتية وبما يسهل على الإنسان حياته.
مفهوم الزراعة التحررية
هنا أطرح مفهوم "الزراعة التحررية" رديفًا للتعليم التحرري، باعتبارها عملية اجتماعية تهدف إلى سيطرة الإنسان على غذائه وسيادته عليه، وبما يلبي أولاً احتياجات المجتمع الأساسية من الغذاء، دون الخضوع لآليات السوق الرأسمالية التي حوّلت حتى الهواء الذي نستنشقه إلى سلعة.
هذا المفهوم قي عموميته يحتاج إلى شرح وتفصيل أكثر، في مجتمع يخضع لاحتلال استيطاني يستهدف كل مصادر السيادة على الغذاء، ويحاول باستماتة أن يحوّل المجتمع الفلسطيني إلى مجرد مستورِد لأصناف غذائه كافة، وهو الذي قد وصل يوماً حد الاكتفاء الذاتي في المنتجات الأساسية، بل إن المجتمع الفلسطيني منذ أواخر العهد العثماني كان يصدّر كثيرًا من المنتجات والغلال إلى بلدان عدة.
لكن النكبة وما نتج عنها، أفقدت المجتمع الفلسطيني معظم أراضيه الزراعية الخصبة، وبات على ما تبّقى من فلسطين والفلسطينيين أن يكيّفوا أنفسهم مع الواقع الجديد، باستغلال ما تبّقى من أرض وإعادة إعمارها.
هذا حصل فيما تبّقى من سهول كما حصل في الجبال الوعرة والشاقة، ويمكن اعتبار ذلك عملاً تحرريًا عفويًا لم يخضع لخطة أو توجيه حكومي، بقدر ما دفعت إليه الحاجة.
ما هي التحديات التي تواجه الزراعة التحررية؟
ترزح تحت نير الاحتلال الاستيطاني تحديات كبرى أهمها:
1- السيطرة الاحتلالية على الأرض ومدخلات الزراعة والأسواق.
2- إغراق الأسواق الفلسطينية بمنتوجات دولة الاحتلال.
3- الاستيطان ومصادرة الأرض بصورة ثابتة ومتواصلة.
4- التخريب الاحتلالي لكل أشكال التحدي الشعبي لسياسات الاحتلال.
أما على المستوى المحلي فإن التحديات التي تواجه الزراعة التحررية هي:
1- غياب أي توجه حكومي مبرمج للتعامل مع الزراعة، بوصفها فعل تحرري يحمي الأرض من جهة، ويعزز الانفصال عن البيئة الاحتلالية، من جهة أخرى.
2- غياب الاهتمام بالزراعة على المستوى الشعبي باعتبارها مصدر قوة تحررية من الاحتلال.
3- تحول الأراضي من مصدر للإنتاج إلى مجال للمضاربة العقارية.
4- غياب أي فكر تعاوني تحرري تقوده القوى السياسية والاجتماعية، باعتبارها قوى مهمتها زيادة الوعي والتنظيم ومواجهة الأخطار المحدقة في المجتمع.
5- سيادة النزعة الاستهلاكية القائمة على ثقافة غير منتجة ولا تعطي للإنتاج قيمة في عُرفها.
أمام هذه التحديات تصبح الزراعة نهجًا مقاومًا وتحرريًا، إذا هي اعتمدت طريقًا يحاول الاستغناء عن منتوجات المحتل وتوفير الاحتياجات الأساسية عبر الإنتاج المحلي.
هذا يحتاج إلى:
1- ترجمة الفكرة من مجرد مخططات نظرية إلى واقع عملي قابل للتنفيذ.
2- بناء ثقافة استهلاكية وإنتاجية في الوقت ذاته، قاعدتها الثقة بالإنتاج الوطني، وإعطاؤه الأولوية على أي منتج آخر، سواء من منتجات الاحتلال أم من منتجات أجنبية أخرى.
3- ترشيد الاستيراد بحيث يقتصر على منتجات زراعية ضرورية.
4- العودة إلى بنية التركيب المحصولي الذي وسم فلسطين تاريخياً، بمعنى العودة لإنتاج الحبوب بأصنافها المتنوعة، وتطوير زراعة الزيتون مع توسيع حلقات الاستفادة من مخرجاته وليس زيته فقط.
5- تشجيع المبادرات الشبابية الريفية في هذا المجال، مع تعميم الفكر التعاوني، واستقطاب الشباب إلى العمل الزراعي بوصفه أداة تحرر.
يجب أن تصبح الزراعة التحررية منهجًا راسخًا في ثقافة الأجيال الجديدة، تكون متمثلة في السلوك والفكر ولها منهجها الواضح الساعي إلى هيمنة هذه الفكرة في الأوساط المجتمعية.
هل يمكن تعميم هذا التوجه دون تنظيم مجتمعي؟
ربما تكون المبادرات الصغيرة خطوات أولى على هذا الطريق، لكنها تبقى هشّة وغير مستدامة إذا ظلت بقعًا متناثرة لا يحكمها رابط اجتماعي أو اقتصادي، بمعنى أن التشبيك بين هذه المبادرات هو أمر لازم، حيث يعضد التشبيك هذا البناء ويشكل شبكة أمان له.
كما أنه يحوّل هذه المبادرات إلى كتلة اجتماعية متميزة قادرة على أن تعمم ذاتها حتى في قطاعات أخرى، أهمها حلقة التصنيع الغذائي لفائض المنتوج، والعمل على استعادة الذائقة الشعبية الموروثة، لتصبح وسمًا للمنتج الفلسطيني.
هل يتم ذلك دون تمويل؟
بطبيعة الحال، تحتاج مثل هذه المبادرات إلى تمويل كي تتوسع، لكنها في البداية يمكنها أن تعمل بإمكاناتها الذاتية، فإذا كانت الزراعة لا تحظى بحصة ملائمة من التمويل الخارجي في الضفة الغربية وقطاع غزة، فكيف إذا كانت زراعة تحررية وهي أبعد ما يكون عن تفكير منظمات التمويل الدولي الساعية لتعميم المناهج النيوليبرالية في مجالات شتى؛ لذا فان التمويل هنا يجب أن يعتمد على شراكات مع المجتمع المحلي أساسًا، وأي تمويل خارجي يؤمن بأهداف الزراعة التحررية.
ما الذي يجعلنا نفكر بهذا التوجه؟
إن ما عاناه قطاع غزة من سياسات التجويع البشعة، وفقدان المواد الغذائية الأساسية، أعاد إلى الأذهان كل عمليات التغيير التي طرأت على التركيب المحصولي في القطاع، والذي جعل من التركيب الجديد (إنتاج الورود والفراولة وغيرها) حالة منسجمة مع احتياجات سوق المركز الرأسمالي وخاصة أوروبا، وانتشار الإنتاج لأجل التصدير، وليس من أجل تلبية احتياجات السوق المحلي.
كل هذا أدى إلى فقدان الإنتاج الجديد لمناعته أمام الحصار والتدمير الممنهج، وفقدان "الأمن الغذائي"، والاعتماد على مساعدات لم تصل.
هذا لا ينطبق على اقتصاد قطاع غزة فقط، وإنما على زراعة الضفة الغربية التي ما زالت تتوجه نحو المحاصيل النقدية على حساب المحاصيل المُلّبية لاحتياجات الصمود، مما يشكّل خطرًا على المناعة الوطنية، مع سياسات التهجير والحصار.
لذا، لا بد من التنبّه لهذا الخطر الداهم واستباقه بسياسات تحررية، إن لم تقم بها المؤسسة الرسمية، فهي مجال مفتوح أمام القوى الاجتماعية بمختلف توجهاتها.
هذه الأفكار مطروحة للنقاش والحوار الجاد، لأجل بناء توجه ومؤسسة شعبية تقدم أنموذجها الوطني القادر على تعزيز روح المواجهة والصمود، فالزراعة التحررية هي صنو التعليم التحرري والأشكال التحررية الأخرى في حياة شعبنا.