إبادة، تطهير عرقي وتهجير قسري، كيف ولماذا؟

الكاتب: عبد المجيد سويلم
في مقاله المُطوّل الثاني حول تداخل هذه المفاهيم، وحول حقيقة هذا التداخل في المراحل المختلفة، قبل النكبة وأثناءها، وبعدها، أيضاً، أورد الأستاذ عبد المجيد حمدان الكثير الكثير من المعطيات والحقائق المشفوعة برؤى وتحليلات عالية القيمة من الزاوية النظرية، وكبيرة الأهمية في جانب الشكل العملي الذي سارت عليه، ووفقه هذه المفاهيم.
وعليّ أن أعترف هنا أنّ السياق الذي عالج به حمدان هذا التداخل، ودور كل واحد منها أحياناً في المسار العملي والتطبيقي لها كان له عظيم الفائدة، وأنّ القارئ لا بدّ أنه قد أثرى معارفه ومتابعاته من خلالها، ومن بين هؤلاء كاتب هذا المقال.
ونظراً لأن مساحة النشر في «الأيّام» تبقى محدودة، فإنّ عليّ أن أُلخّص من جديد وجهة نظره في ثلاثة محاور:
الأوّل، حقيقة الموقف الصهيوني في مسألة الإبادة الجماعية. الثاني، حول أشكال مجابهة هذا المشروع، بين السلمي والمسلّح، والاعتبارات التي أملت هذا الشكل أو ذاك في المراحل الملموسة من هذه المجابهة.
والثالث، هو دور قيادات الحركة الوطنية في مسار هذه المجابهة، في المسألة الأولى «اختلف» حمدان معي في مسألتين، واحدة حول «الإعلان» الرسمي من قبل، وفي الوثائق الصهيونية، وأخرى حول تصنيف التهجير القسري في إطار مفهوم الإبادة، وفيما إذا كان هذا التهجير هو نفسه ينطوي عليها.
وحول الإعلان من عدمه من قبل قادة الحركة الصهيونية، ومن خلال الوثائق التي كُشف عنها لاحقاً، وخصوصاً ما قام به المؤرّخون الجدد، والدكتور إيلان بابيه تحديداً فإن لديّ ملاحظة أساسية.
إذا كان مفهوم التهجير القسري هو شكل من أشكال الإبادة الجماعية، والذي تم تجسيده على الأرض في «هيئة» التطهير العرقي تصبح المعادلة على هذا الصعيد واضحة، ويصبح «الإعلان» عنها قليل الأهمية، ويصبح موقف حمدان هو الأدقّ والأكثر صوابية على الأقل. وتصبح مسألة هذا الإعلان ثانوية فعلاً، أما إذا كان التهجير القسري، والذي تحوّل في الممارسة العملية إلى شكل بيّن من أشكال التطهير العرقي لا يعني بالضرورة الإبادة الجماعية، بصرف النظر عمّا إذا كان معلناً أم لا، فيعود النقاش بنا إلى أن التطهير العرقي في الحالة الفلسطينية، وهو عملية ناتجة عن التهجير، هادفة ومقصودة حتماً لتحقيق الاقتلاع والإحلال وإلى شكل فريدٍ من الاحتلال.
وبما أننا، أنت وأنا، ومئات وآلاف من المهتمّين والمعنيّين نرغب بتأسيس وإعادة تأسيس روايتنا وسرديّتنا لقضيتنا الوطنية يصبح لزاماً علينا إعادة تبنيد هذه المفاهيم في مصفوفة الرواية والسرديّة، ويصبح من الواجب ليس مناقشة القانونيين المختصّين، وإنما المتابعين والمهتمّين أنفسهم، أيضاً، بل ويصبح الاستماع إلى رأي بابيه نفسه مسألة تستحق الاستماع.
أما أنا فإن انطباعي حول هذا الأمر ــ وليس يقيني ــ وبالنظر إلى حاجتنا لكي تكون روايتنا وسرديّتنا أكثر ما تكون متماسكة هو أن التطهير العرقي في الحالة الفلسطينية، والذي ترافق مع التهجير القسري، حتى ولو أن هذا التهجير لم يكن في كل حالة من الحالات قسرياً مباشراً، فإنه يحتاج إلى توضيح لا يقبل المنطقة الرمادية، لأنّ الرواية الصهيونية نفسها أمعنت في التضليل على هذا المستوى بالذات.
لهذا ما زلت عند رأيي بأننا نحتاج إلى حوارات ونقاشات أوسع من حيث المهتمّين، وأعمق من حيث العلاقة، ومن حيث التداخل في المفاهيم حول المسائل «القانونية» بالذات، وحول التبعات السياسية، وكذلك السياساتية المترتّبة عليها.
وأمّا فيما يتعلّق بأشكال النضال في مرحلتي ما قبل النكبة، وما بعدها فإنني هنا، أيضاً، لديّ بعض الملاحظات:
أولى هذه الملاحظات حول أشكال مجابهة ومقاومة الفلّاحين في العهد العثماني، ومن ثم البريطاني، وكذلك عصابات الإرهاب الصهيونية وحتى قيام دولة الاحتلال وما بعدها، ومروراً بهزيمة حزيران 1967، وما تلاها من هذه الأشكال، وحتى يومنا هذا فإن ما أورده حمدان في هذا المجال هو إسهام علينا أن نعترف به جميعاً للصديق العزيز، ليس فقط يغني المعلومات والمعطيات، بل وللتحليل الرصين الذي تلازم مع هذه المعلومات والمعطيات.
صحيح أنّ المعطيات تبدو قليلة عن العهد العثماني إلّا أنني أقترح هنا أن يُعهد إلى بعض المؤرّخين الفلسطينيين الشبّان بدراسة الأرشيف العثماني والنبش فيه، لأن هذا الأرشيف غنيّ للغاية على هذا الصعيد، وقد أُتيح لكاتب هذه السطور التعرّف على استعداد الدولة التركية لفتحه أمام المختصّين، وقد أبلغَنَا رجب طيّب أردوغان نفسه وشخصياً بذلك، وطلب منّا إرسال الطلبة الفلسطينيين، وكان ذلك أثناء زيارة قمنا بها بصورة رسمية لكتّاب وصحافيين إلى تركيا بدعوة أردوغان، وكان حينها رئيساً للوزراء.
وأمّا المصدر الثاني الذي أعرفه، وقد قرأته فهو الكتاب الذي كتبته الرفيقة تمار جوجانسكي عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الإسرائيلي آنذاك حول ملكية الأرض في فلسطين، في العهدين التركي والبريطاني، ومن قراءات أخرى مثل الاقتصاد الفلسطيني في مرحلة الانتداب.
أستشفّ أنّ أشكال المجابهة مع المشروع الصهيوني كانت على مدى كل هذه المراحل، ومن دون استثناء، وإلى ما قبل هزيمة حزيران 1967، وما بعدها إنما كانت تبدأ سلمية فعلاً، ولم تكن مسألة الكفاح المسلّح هي نقطة البداية في هذه الأشكال، وكانت الأشكال المسلّحة هي نتيجة أكثر مما كانت سبباً أو أسباباً، وكانت ردود أفعال أكثر مما كانت أفعالاً، وكانت تحدث بفعل درجة الظلم، وأشكال العنف التي يمارسها المستعمر وعصاباته وطرائق تعامله مع الفلّاحين، ولاحقاً مع التجمّعات المدينية، ومن العسف والصلف الذي عانى منه أبناء شعبنا.
ويستشفّ في هذا السياق أن الحديث عن موازين القوى، في كل الحالات، وفي كل المراحل لا يستقيم بمعزل عن رؤية هذه المعادلة، أي معادلة الظلم، والعنف، إضافة إلى شحّ الإمكانيات، وغياب التحالفات، والنقص الحادّ في الدعم والإسناد.
ونستنتج بقدر ما هو متاح حتى الآن أنّ الشكل السلمي، ولكن الجماهيري غالباً كان هو المظهر الأساس في مجابهة ما واجه الكفاح الوطني من تحدّيات، وأنّ الشكل المسلّح، بالرغم من صعوبة الظروف كان الشكل الذي فرضته الظروف، وخصوصاً درجة العنف والعنصرية والإرهاب التي مورست بحق الشعب الفلسطيني، ونمط المشروع المعادي وأفكاره وطموحاته، ودرجة الإمكانيات التي تحصّل عليها هذا المشروع من عدّة أدوات، ووسائل دعمٍ وإسناد.
وعلى هذا الصعيد تبدو أطروحات حمدان وأفكاره سديدة ورصينة.
وبالمقابلة نستشفّ، أيضاً، أنّ الخلافات والاختلافات حول اللجوء إلى هذا الشكل أو ذاك قد رافقت المسيرة الكفاحية لشعبنا، وأنّ الحالة [الحسينيّة والنشاشيبيّة] ليست الاستثناء الوحيد في هذه المسيرة، وأنّ من إحدى أهمّ القيم التي أبرزها حتى الآن النقاش مع حمدان هو راهنية هذه المسائل في مسيرتنا الوطنية الحديثة، ولعلّ الانتفاضة الوطنية الكبرى العام 1987، تقدم نموذجاً خاصاً هنا.
في المقال القادم المخصّص للمناقشة مع حمدان، سنحاول استكمال النقاش في هذه النقطة، وكذلك في المسألة الثالثة التي أشرنا إليها في هذا المقال وهي مسألة دور القيادات الوطنية، السلبي والإيجابي، وهي مسألة كما يعرف القرّاء على أعلى درجات الأهمية والراهنية.