الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 5:02 AM
الظهر 11:53 AM
العصر 2:58 PM
المغرب 5:28 PM
العشاء 6:44 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

بجوار "مستشفى العودة" .. النزوح الأصعب

الكاتب: ميرفت عوف

لم تكنْ حربُ السابع من أكتوبر/تشرين الأول لعام 2023 الأولى التي تمرُّ عليَّ، بَيْدَ أنَّها كانت أُولى الحروب التي عجزتُ فيها عن كتابةِ كلمة واحدة حتى لحظة كتابة هذا المقال؛ أي قُبيل انتهائها بأيَّام فقط.

 لا أعلم بالتحديد سببًا رئيسيًّا وراء عجز صحفية تعيش بغَزَّة، وتكتبُ منذ عشرين عامًا عن حروبها وهموم أبنائها، وأحلامهم وآمالهم، وحتى خلافاتهم السياسية. لربما تكون الصدمة غير مسبوقة هذه المرة؛ فمنذُ اللحظة الأولى للحرب كان مسكني في غرب غزة (مخيَّم الشاطئ) قد أُلقي بين يَدَي الضربات الأُولى لهذه الحرب التي جاءت بأهوالٍ أعجزتنا عن استيعاب ما يدور حولنا: كَم الضحايا الذين كانوا يتساقطون خلال دقائق معدودة؛ بيوت الأحبَّة والأقارب التي نُسِفتْ فوق أجسادهم؛ قذائف الفسفور التي استنشقنا رائحتها... والكثير الكثير.

بعد أيام قليلة، بدأتِ المنشوراتُ التي تُطالبنا بالنزوح تتساقط علينا. اضْطُررنا للاستخفاف بها رغم المؤشرات السيئة من حولنا؛ الطعام يشحُّ، الماء ينفدُ، حتى الهواء المستنشَق بغبار القصف يُسَوِّد وجوهَنا وأجسادَنا المذهولة، فيما حُمَم القذائف تقترب أكثر وأكثر من سكننا فتزيد فجوةَ الرُّعب التي تحاصرنا.
بعد شهر كامل من الحرب، اضْطُررنا للخروج نحو المصير المجهول في جنوب قطاع غزة، الذي لم نترك فيه مدينة إلا وضعنا فيها رحالنا. لكني آثرتُ الآنَ أن أكتب عن أصعبها وأكبرها مدًى، هناك بجوار مستشفى العودة في النصيرات وسط القطاع، حيث يمكنني القول إنني عِشْتُ الحربَ بمزيدٍ من المعاناة.

هناك بجوار مستشفى العودة الذي بُنِيَ على مساحة لا تزيد عن 400 متر فقط، كي تضع الفلسطينيات فيه مواليدَهنَّ، ثم خلال الحرب أصبح ملجأً اضطراريًّا لضحايا الإبادة الإسرائيلية، كان الوجعُ الذي طالما عشناه ورأيناه وسمعناه كبيرًا، وأشده وطأةً ما كان يحدث في الليل عندما كانت أصوات الصواريخ والقذائف تُفزعنا من نومنا الموجوع، نُفيق نتفقَّد أجسادنا ثم أجساد من حولنا، ثم نلتفت لصرخات الاستغاثة العاصفة؛ يصرخ أحدهم على رجال الإسعاف صراخًا يحدِّد به مكان القصف للنجدة، صراخًا عاليًا يهزُّ قلبي. وآخر يخذله وقود السيارة الشحيح فيتوقَّف على بُعد أمتار من المستشفى؛ أي أمام مكان نزوحنا، فنضطر لِسَحْبِ المصابين ثم نقلهم حملًا إلى المستشفى. وثالث خذلته قدماه قبل أن يصل إلى المقرِّ القريب لرجال الدفاع المدني الذين باتوا ليلتَهم على الكراسي يترقَّبون صوتَ القذائف والصواريخ والرَّصاص.


بوصفي امرأةً، لا يمكنني أن أنسى العديدَ من الأحداث التي راحت ضحيتها سيدات فلسطينيات، مثل نحيب امرأة يصعق أدراج المستشفى، تكرِّر بوجعٍ كلمات: "راح أبوي ... راح أبوي ... الله يرحمك يا آبا!" فأجد نفسي عاجزة إلا عن الدعاء: "ربي اربطْ على قلبها! ربي اربطْ على قلبها!" كذلك لا يمكن أن يبارح من مخيلتي مشهد وداع زوجة أحد شهداء المخيم الجديد الذي قُتل لمجرد أنه كان في بيته يدبِّر بعضَ أموره. في ذلك اليوم الذي أذكر أنه الـ22 من ديسمبر لعام 2024، هَوَتِ الأرْملةُ الجديدة من بين أيدي المواسين نحو الجثمان، ثم قالت منهارة: "والله راح يغسل ويرجع!" وبينما اجتهدتِ النسوةُ حول المرأة الثكلى في مواساتها، قالت إحداهن: "انظري حولك! كم كبير من الناس يحبه!"
كانت القلوبُ تَلَجُّ بالدُّعاء للضحايا الجُدد من نازحي مدرسة المخيَّم الجديد الذين أُلقيت عليهم قنبلةٌ شديدة الانفجار فأسقطت العديد من الضحايا.

بعُمْقٍ أكبر، يمكنني أن أَرْوِيَ مثلًا ما حدث في ضُحى يوم 16 من ديسمبر، يوم استُشهد الشيخُ خالد نبهان، صاحب مقولة: "روح الروح" الشهيرة. فبينما كانتِ المدينةُ تلتقط أنفاسها إِثْرَ ليلة حربية عصيبة، باغتتْ قذيفتان شقةً سكنية، تناثرتِ الشظايا الثقيلة في الطريق، وفي أجساد المارَّة الذين خرجوا لالْتقاط أرزاقهم الشحيحة. عندما فزع الناجون لإنقاذ الضحايا من الجرحى، شجَّعتِ المسافةُ بين مكان الجريمة الجديدة ومستشفى العودة -التي تقدَّر بنحو500  متر- الناسَ على حَمْل المصابين راجلين نحو المستشفى.

في هذه اللحظات، بدأتْ تمرُّ من أمامنا الأجسادُ المغبرَّة المُنْهَكَة التي تحاول التمسُّك بقواها الجسدية بصعوبة. كان أحدهم أبًا يحمل طفلَه، والدماء تتقطر من جسده النحيل، وآخر في مُنتصف العمر يحمل شابًّا بجروح غريزة، فيما عجلت السيارات المدنية وسيارات الإسعاف لاستكمال نقل باقي الضحايا للمستشفى.
وهناك في الخيمة الطبيَّة التي خصَّصها المستشفى لطوارئ الحرب، حيث تصادف وجودنا للعلاج مع الحدث، بدا المشهدُ أكثرً فجعًا، فَقَدِ اجتمعَ كلُّ الضحايا أمام مرأى العين؛ أطفال ينزفون تائهين بعد أنِ انتشلهم أحدُ المنقذين دون أن يعرف مصير آبائهم أو أمَّهاتهم، ونساء يهمُّهنَّ أن يَسْتُرْنَ أجسادهنَّ قبل أن ينكبَّ الأطباءُ على تَفقُّدِ جُروحهنَّ.

عندما يهلُّ أقاربُ الضحايا الواحد تلو الآخر، يكون الأكثر حظًّا مَن ضُمِّدَتْ جِرَاحُه واتَّكأ على أكتافهم ليخرج من قوقعة المجزرة، فيما يُصدَم آخرون بالجراح الخطيرة التي نالت مِن أحبَّتهم، أولئك الذين هرول الأطباءُ لتجهيزهم كي تنقلهم سياراتُ الإسعاف إلى مستشفى شهداء الأقصى الأكثر تخصصًا في المدينة المجاورة؛ مدينة دير البلح.

الأكثر أَلَمًا هو حالُ الثَّكالى الذين تهزُّ صرخاتُهم أركانَ المكان، وبسرعة البرق تُوضَع جثامينهم في الأكفان تجهيزًا لِدَفنهم حتى قبل أن يصلَ العديدُ من أقاربهم وأصدقائهم الذين تَحُولُ المسافاتُ الغارقة بالنازحين دونَ وصولهم في هذا الوقت الضيق.

في المشهد المتكرِّر بمرأًى مِنَّا، يودِّع الحاضرون من الأقارب الشهداءَ المطروحين أرضًا؛ نظرًا لضِيق البيت الطبي الصغير "مستشفى العودة"، ثم تُحْمَلُ الجثامين نحو الوجهة الأخيرة؛ نحو المقبرة التي كلَّما مررتُ بها وجدت قصفًا جديدًا قد نال من قبورها، حيث يكون المعارف قد سبقوا الجمعَ لحفر قَبْرٍ واسعٍ يضمُّ عائلةً كاملة، أو أمًّا وأبناءها، أو أبًا وبعض محارمه.

وفي الختام، لا بدَّ من تسجيل ما حدثَ في ليلة اغتيال خمسة من زملائي الصحفيين، يوم 26 من ديسمبر أيضًا. في هذه الليلة كان الهدوء غير الاعتيادي يَزيد مخاوفنا، نتساءل: لماذا خَلَتِ السماءُ من طائرات الاستطلاع وطائرات الدرون والكواد كابتر والإف 16 مرةً واحدة، حتى الدبابات لم تَرْمِ حُمَمَ قذائفها منذ بِضْعِ ساعات، هذه الأجواء المشجِّعة على اقتناص برهة من النوم انتهتْ على وقع انفجار قويٍّ تتناثر معه الشظايا والركام والصرخات، وأفجعها صرخة شقيق أيمن الجدي التي سمعها العالم.

كان المشهد مُريبًا للغاية: النيران تشتعلُ بسيارة البثِّ وبأجساد الزملاء الصحفيين. وفيما يعجِّل رجالُ الدفاع المدني، الذين يبعد مقرُّهم خمسة أمتارٍ فقط، يجد طاقم مستشفى العودة نفسَه في قلب الحدث، لكنَّ دوره اقتصر هذه المرة على تكفين الشهداء، فما من ناجٍ واحد من المحرقة التي أضحى فيها ناقل الخبر هو الخبرَ نفسه.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...