عقلنة الخطاب الشعبي، وفلسطنة الفعل
الكاتب: عدي ابو كرش
لا تزال الأنظار مشدودة نحو واشنطن باعتبارها مصدر الفعل في القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا، ومع ذلك أعتقد أن التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي بشأن تهجير الفلسطينيين تتطلب الرد بأسلوب واحد فقط، وهو حرف النظر عن واشنطن وتوجيهه ليس الى أي عاصمة أخرى غير القدس.
على الرغم من أن التصريح يشكل تهديدًا كبيرًا، إلا أنني أرى أنه لا يشكل خطرًا على الفلسطينيين بالقدر الذي يشكله على مفهوم سيادة الدول على أراضيها واستقلال قرارjها حيث ومن الواجب أن يُقرأ هذا التصريح بشكل تكاملي مع ما فتحه ترامب من جبهات، ابتداءً من تصريحاته حول جيرانه في كندا والمكسيك، مرورًا بقناة بنما ورغبته في الاستحواذ على غرينلاند، ووصولاً إلى رغبته في الحصول على مليارات الدولارات من الدول العربية، وعلى رأسها السعودية، وكذلك محاولاته المتكررة للتدخل في قرارات مصر والأردن، وهي توجهات محمولة على أرضية استعلائية وسلطوية، هدفها توريط الجميع في إيجاد حلول تخدم مصالحه وتوجهاته لذر الرماد في عيون الأمريكيين بأرقام في تقرير أدائه السنوي.
رغم أن النقاش المجتمعي قد يكون في بعض الأحيان ساخراً، إلا أنه يبدو أن ترامب يهدف إلى إثارة هذه البلبلة في أوساط الشعوب، في اطار فوضوي هدفه ايهام الجميع بقدرته على الفعل وهو بذلك يخلق حالة دفع من للجمهور لتشكل ضغطاً شعبياً على الأنظمة، وهي احدى الأدوات المعروفة في المسارح التحريضية لخلق فعل مشترك بينت الملقي والمتلقي، مدفوعاً بايمان ان أمريكا هي مصدر الفعل أو محركه على الأقل.
وهو بهذه الفوضى أيضاً يسعى الى خفض سقوف المواقف المقابلة، ودفع الجميع الى تطوير بدائل دفاعية متراجعة، وخفض القدرة التفاوضية لمختلف الأطراف ورفض مرجعيتاهم التفاوضية، وإيجاد مراجع تفاوضية جديد تماما تضيع فيه معالم المعقولية والمقبولية، والاطر القانونية والمرجعيات التقليدية، فيما يسعى بذات القدر الى توريط الدول المختلفة لتحميلهم مسؤوليات لا يجب ان يتحملها سوى أمريكا واسرائيل.
ولذلك لا أرى أهم من استقراء مواقف الجبهات المختلفة اتجاه ترامب، ففي الوقت الذي اصدر ترامب قراره بفرض التعرفة الجمركية على كندا والمكسيك كانت مباشرة القطع في رد رئيس الوزراء الكندي ترودو، ورئيسة المكسيك كلوديا شينباوم برفض قراره والرد بالمثل، وقديم مقابل وهمي يمكن ترامب من اعداد تقريره بوصفه الرئيس "الاختراع" في التاريخ الأمريكي وقد كان لتلك الردود المباشرة الأثر في تأجيل قراراته التنفيذية اتجاه تلك الدول. وبظني أنه سيكون لرد الدنماركيين حكومة وبرلمانيين ذات النتيجة فيما يتعلق بتطلعات ترامب الاستحواذية على جرين لاند، التي تهدد استقلال وسيادة دول أوروبا والتي تعد حليفته الأول، والتي لن تقبله تلك الدول بحال من الأحوال.
هذا وجا رفض الرئيس محمود عباس في غضون ولاية ترامب الأولى بشان صفقة القرن، في غاية الوضوح وقطعت الطريق على كل المحاولات، وقد استعادت المبادرة الفلسطينية بشأن المرجعية التفاوضية وزادت عليه رفض أن تكون أمريكا هي الوسيط الوحيد او المرجعية الوحيدة في عمليات التفاوض مستقبلاً وهو سقف جديد جاء أعلى من السقف الذي رغب ترامب في فرضه في المرة الأولى,
أما في حالة قناة بنما فقد كان تباكي ترامب أكثر وضوحاً، في التعبير عن شكواه بانتفاع الصين أكثر من أمريكا من القناة، التي يعتبرها أمريكية المنشأ، ففي اللحظة التي عبرت فيها بنما عن استعدادها للتفاوض بشأن الرسوم أعلنت الخارجية الامريكية في بيان لها على منصة أكس أنها السفن الأمريكية تستطيع العبور دون رسوم، الشيء الذي كذبته وزارة الخارجية في بنما، ومن الجدير ذكره في هذا الخصوص أن مجموع ما دفعته أمريكا من رسوم على مرور سفنها وغواصاتها البحرية لا يتجاوز 25.5 مليون دولار على مدار ستة وعشرون عاما، أي اقل من مليون دولار سنويا بحسب سي أن أن
هذا وقد جاءت ردود فعل مصر والأردن بالرفض القطعي لفكرة تهجير الفلسطينيين باعتبارها تهدد سيادتهم على أراضيهم واستقلال قرارتهم، ومباشرة العاهل الأردني تطوير اتفاقيات بديلة مع الاتحاد الأوروبي لوقف أي نقاش حول طروحات ترامب، حيدت ما قد تنتجه تصريحاته من فوضى في الشارعين المصري والأردني مباشرة.
ان الموقف الفلسطيني الذي تشابك مع الرفض العربي لمحاولة ترامب خلق مرجعية جديدة، في الوقت الراهن لا يجب بأي حال من الأحوال أن تتكئ او تستتظل بظل دولاً أخرى سيما روسيا الطامعة لانهاء حربها في أوكرانيا، في مقابل ما انتهى اليه واقعها في سوريا، أو أية دولة أخرى لكي لا يكون الفلسطيني ورقة تفاوضية ضمن سلسلة السقوف الذي يحاول ترامب وضعها ، وأرى وجوب أن يستتبع الموقف بالتدخلات التالية:
عقلنة النقاش المجتمعي: برأيي أن النخب الفلسطينية المختلفة، وقيادة الأحزاب السياسية، وقيادة منظمة التحرير، مطالبة بطمأنة الشارع الفلسطيني من خلال تعزيز الانفتاح عليه، وتبديد ما تخلقه هذه التصريحات من مخاوف، ومنع استخدامه في فوضى السقوف الأمريكية، وشطط مغامرات ترامب. كما أن التحذير من المنطلقات الشعبوية، يجب أن يأخذ اهتماماً خاصاً محمولاً على أهمية الانخراط في اعلام توعوي قائم على التعامل مع ما تحدثه تلك المناورات من مخاوف لدى الجمهور.
فلسطنة الفعل الفلسطيني: وجوب العمل على استعادة زمام المبادرة واستعادة ثقة الجمهور في المكون السياسي الفلسطيني وممره الاجباري برأيي عملية اصلاح مستجيبة لتطلعات الجمهور، والاتكاء على استعادة جمعانية تمثيل منظمة التحرير وما يتطلبه ذلك من تقويتها وتعزيز الشراكة في مكوناتها، وتمتين الجبهة الداخلية.
غير أن الخطر الأكبر في كل هذه الفوضى أن هذه التصريحات سيتم تلقفها من قبل قوى المستوطنين وقيادة الاحتلال الإسرائيلي، الذين سيستغلون هذه المناورة المختلة، وعليه يجب اتخاذ التدابير القانونية في مستوى مؤسسات الأمم المتحدة بوصف هذه التصريحات تحريض على اقتلاع الشعب الفلسطيني من ارضه، ويجب ان يتوازى مع إجراءات لحماية المجتمع الفلسطيني بشكل أكبر في هذا الوقت.