بين رأيين في حرب 7 أكتوبر
الكاتب: أسامة خليفة
يحمّل عديدون من «الفلسطينيين والعرب» المسؤولية عن النكبة التي تعرض لها سكان غزة بعد عملية طوفان الأقصى، لحركة حماس، ويتحدثون عن التكلفة الباهظة للحرب، والثمن المدفوع من أرواح وجراحات وعذاب وإعاقات جسدية، وتدمير واسع للبيوت، وللبنية التحتية، فينددون بمبادرة حركة حماس شن هجوم 7 أكتوبر واقتحام غلاف غزة باعتبارها السبب بالمعاناة والأزمة الإنسانية الحادة التي عاشها الغزيون خلال الحرب العدوانية من نقص الغذاء والمياه النظيفة والأدوية والوقود، وانهيار الرعاية الصحية، مات بسببها مرضى وأطفال خدج، دمرت المشافي، وانقطع التيار الكهربائي والاتصالات، وأصبحت الحياة جحيم لا يطاق في ظل انعدام كل مستلزمات الحياة، واحتمالات حدوث مجاعة، وانتشار أوبئة، وكانت حصيلة الشهداء نحو 61000 فلسطيني في غزة، معظمهم أطفال ونساء، بالإضافة إلى 10000 شخص في عداد المفقودين تحت أنقاض المباني المدمرة، وما يزيد عن 100000 جريح ومصاب. لم يقتصر الأمر على غزة وحدها بل امتدت شراسة الاعتداءات الانتقامية الإسرائيلية إلى الضفة الغربية، حيث ارتفعت وتيرة العمليات العسكرية الأمنية في الضفة الغربية. فارتفع عدد الشهداء والمعتقلين، وشُنت حرب شعواء على المخيمات والقرى والمدن شارك بها الجيش والمستوطنون، في رد فعل انتقامي على «الطوفان» بأسلوب فائق الهمجية، تفوق الهمجية التي مارستها الحركة الصهيونية، في حرب العام 1948، في حرب 7 أكتوبر استعمل العدو كل ما زودته به الولايات المتحدة من أسلحة دمار ثقيلة بهدف القضاء على مقاومة غزة، واستعادة أسراه بالقوة، وتدمير بنية القطاع التحتية، وتهجير سكانه، ومن ثم ضمه، وإعادة حملة الاستيطان فوق أراضيه، ولا سيما في محور نتساريم. هذا الرأي لا ينطلق من النظر إلى عمق الصراع بين الطرفين وتاريخه وطبيعة الاحتلال الإسرائيلي، وكأن الصراع قد بدأ فجر يوم 7 أكتوبر. هذه العملية في 7 أكتوبر ما هي إلا جولة من جولات الحرب المستمرة منذ عقود، وما كانت حركة حماس قد ظهرت للوجود في بداياتها.
يرى آخرون أن طوفان الأقصى هو محطة مفصلية بالغة الأهمية في حرب التحرير الشعبية في إطار التصدي للعدوان الإسرائيلي المستدام منذ أكثر من 76 سنة، لم تتوقف خلالها دولة العدو عن ارتكاب الجرائم ضد الشعب الفلسطيني وسلب أرضه، وصولاً إلى الهدف الأبعد: محو كيانية الشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني، وإقامة دولة «إسرائيل الكبرى» على كامل التراب الوطني الفلسطيني.
لم يكن «طوفان الأقصى» مجرد معركة أو عملية عسكرية فذة نجح فيها المقاتلون الفلسطينيون في اختراق العمق الإسرائيلي وصولاً إلى مستوطنات «غلاف غزة»، بل شكل هذا «الطوفان» حرباً بكل ما في الكلمة من معنى، لم يشهد الإقليم لها مثيلاً، منذ حرب أكتوبر 1973، بآثارها الكبرى على العدو الإسرائيلي، المزلزلة لكيانه، وتداعياتها الإقليمية والدولية، وقدرتها على خلط الأوراق في الحسابات السياسية، للولايات المتحدة بخاصة، كما ولعواصم الغرب الإمبريالي.
الشواهد على هذا الرأي تأتي من تصريحات الإسرائيليين أنفسهم الذين وصفوا عملية «طوفان الأقصى» بـ«الإخفاق الكبير»، الذي لا يساويه خطورة سوى الإخفاق التاريخي للقيادة الإسرائيلية بالمفاجأة الاستراتيجية التي داهمتها في حرب أكتوبر 1973، إخفاق دخل التاريخ بمسمى (المحدال بالعبرية)«التقصير بالعربية».
هل كان «7 تشرين الأول/أكتوبر» خياراً من بين خيارات متاحة للفلسطينيين؟. أم ضرورة؟. عندما تسقط الخيارات الواحد تلو الآخر، ولا يبقى سوى خيار أوحد فهو التعبير الحقيقي عن الضرورة أو الحتمية، وليست حرية الاختيار في أن تتعدد الخيارات بل في وعي الضرورة، ولا سيما في المقارنة بين خيار الاستسلام وخيار المقاومة، أو المقارنة بين أمرين أحلاهما مر.
هل كان هجوم 7 أكتوبر مخاطرة غير محسوبة العواقب؟. ماذا لو لم تختر المقاومة شن هجوم 7 أكتوبر؟.
إن تصاعد التوتر في القدس والضفة الغربية، والوضع السياسي العربي المهترئ الذي أصبح غير مناسب للفلسطينيين أكثر فأكثر، حتمت هذه الظروف من الناحية الاستراتيجية أن تقوم المقاومة بهذه «المخاطرة» الضخمة.
الوضع الفلسطيني قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر يشير إلى انسداد أفق الحل السياسي، وأن إسرائيل ماضية بسياسة الاستيطان والضم والتهويد ومصادرة الأراضي، واقتحامات متكررة متقاربة للمسجد الأقصى والتغول في الدم الفلسطيني وسياسة الاغتيالات، ودولياً تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية لصالح التطبيع مع الأنظمة العربية، وتواصلت معاناة غزة من الحرب والحصار.
في السياسة كما في الأدب، والأديب والفنان كما السياسي والعسكري يعرفون أن ميزان القوى مختل لصالح العدو إلا أن محمود درويش يتحدث عن هذه الضرورة والخطوات الملحَّة في مواجهة مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، بطريقته المعبرة وأسلوبه الأدبي: «حاصر حصارك لا مفر.. اضرب عدوك لا مفر»، وعن افتقار المقاومة للسلاح المناسب، يقول: «سقطت ذراعك فالتقطها ! واضرِبْ عدوك بي..لا مفر».
لم تترك حكومة أقصى اليمين الإسرائيلية أي خيار أمام الفلسطينيين، المسجد الأقصى مهدد بالتهويد وسيصبح كنيس يهودي، والضفة الغربية ستتحول إلى يهودا والسامرة، وأمام الفلسطينيين في الضفة ثلاثة خيارات: قبول البقاء في الدولة اليهودية تحت نظام أبارتهايد يمارس الفصل العنصري ويتعامل مع الفلسطينيين كمواطنين من الدرجة الثاني دون طموحات سياسية، أو الرحيل إلى خارج الضفة الغربية بإرادته وبمساعدة حكومة الاحتلال، إذا أراد البقاء وتطلع إلى المساواة أو دولة فلسطينية مستقلة فسيواجه الموت أو السجن.
تباينت ردود الأفعال ما بين مؤيد ومعارض لقرار حماس شن هجوم طوفان الأقصى واقتحام غلاف غزة بالصورة التي أدى إلى إثارة رد فعل إسرائيلية انتقامية بمنتهى العنف والقسوة، حمّل معارضو الحرب حركة حماس مسؤولية الدمار والتشريد والتجويع والدماء الغزيرة التي سالت، مؤكدين أن الحركة أعطت لإسرائيل الذريعة لشن حرب إبادة وتهجير طالما سعت لها وبحثت عن مبررات تقدمها للرأي العام العالمي متهمة المقاومة بالإرهاب.
ألم تكن ردة الفعل الإسرائيلية المدمرة متوقعة، أما كان من الممكن تجنب هذه الكارثة؟. لأن الأمور بخواتمها يصح التساؤل هل اختلف موقف المحملين حركة حماس مسؤولية النكبة التي تعرضت لها غزة بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار؟. مع أن خواتم الأمور لا تكون إلا بنيل فلسطين حريتها واستقلالها.
بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الذي بدأ يوم الأحد 19 / 1 /2025 كثرت الانتقادات والتساؤلات عن الإنجازات التي تحققت، وعن حجم الخسائر في الأرواح والدمار الواسع الذي أتى على نحو 80% من مساكن المواطنين وعلى البنية التحتية من جامعات ومدارس ومشافي ومساجد، ولم يحرر الطوفان أرضاً، ولم يغير حالاً، وما زال الشعب يرزح تحت الاحتلال والحصار.
هناك من رأى أن حركة المقاومة «حماس» محقة في إشعال فتيل الحرب مشيرين إلى أنها حققت انتصارات مهمة على اسرائيل برزت في اتفاقية وقف إطلاق النار وبتحرير الأسرى، وإفشال كل أهداف العدو المعلنة من الحرب العدوانية.
وأن الطوفان كان ضربة موجعة جداً لإسرائيل، وهزيمة منكرة، وفي التاريخ ما يتشابه في ممارسات المحتلين عندما تواجههم مقاومة باسلة تنشد الاستقلال والتحرر، وتحقق نتائج باهرة في دفع الاحتلال ثمناً لاحتلاله ونهب خيراته، حينها يلجأ المحتلون إلى سياسة الأرض المحروقة، والأمثلة على ذلك كثيرة في فيتنام وكوريا وهيروشيما وناكازاكي، وفي بلادنا العربية، في ليبيا، ارتكبت إيطاليا الفاشية جرائم حرب بشعة من أجل إخماد الثورة الليبية، فهل يتحمل عمر المختار المسؤولية عن العذابات والدماء التي سالت ؟. في الجزائر وحدها مثالين صارخين لإرهاب الدولة الفرنسية وجرائم الحرب وإجراءاتها اللإنسانية في محاولة للقضاء على الثورة. مرة أولى: ضد ثورة عبد القادر الجزائري، ومرة ثانية: الثورة الجزائرية 1952 التي كلفت الجزائريين مليون شهيد، تبدو الإجابة واضحة: حول من يتحمل مسؤولية الإجرام والإبادة الجماعية؟.