ياسر وصهيل الفرح المرّ!
الكاتب: بكر أبوبكر
الجماهيرُ الغفيرة التي تواجدت في مجمع رام الله الترويحي ملأت الساحة داخل المجمع وفي الشارع المرتبط به، كما اعتلى الناس المرتفعات المطلّة على المكان أيضًا سواء من فوق التلال الترابية أوالبنايات وشرفات البيوت.
الكلّ كان ينتظر مترقبًا دفعة الأسرى المحررين
انها الدفعة ضمن (اتفاق الدوحة) وعددهم 200 وإن كان جزء منهم قد أبعِد، وتم تبديل جزء آخر صبيحة يوم الفرح المرّ، فازداد أهل الأسرى المستبدلة أسماؤهم غمًا على غم. فقتل الإسرائيلي الفرحة ومزقها أشتاتًا بين فرح مطلوب وحزن موجود وتناقض لا يمكنك أن ترى مثله الا في حالة فلسطين الفريدة بالعالم!
ساعاتٌ ثقيلة مرّت منذ طلوع فجر صباح يوم 25/1/2025م حتى وصول الأسرى بعد الظهيرة في ثلاث حافلات كانت حذِرة الوطء على أرض فلسطين المقدسة، من رام الله بالمسافة القصيرة عادة، والطويلة الثقيلة بهذه المناسبة بين بلدة بيتونيا بمحافظة رام الله والبيرة وصولًا لأرض مجمع رام الله الترويحي (منطقة عين الكرزم، قرب حرش الردّانا) وبالاتصال ضمن منطقة عين مصباح في المدينة الصاخبة.
المسافةُ القصيرة بين بلدة بيتونيا وصولًا الى منطقة استقبال الأسرى المحررين استغرقت أكثر من ساعتين، وهي بالعادة لا تأخذ الا عدة دقائق! لسبب الاحتفاء الشعبي الذي واكب الحافلات الثمينة بمحتواها البشري من خروجها البطيء الخطَى حتى الوصول للمساحات التي عجّت بأهالي وأصدقاء وأحبة الأسرى العِظام.
كنتُ متواجدًا مع عائلتي الصغيرة.
وأخي وأختي وعائلاتهما، وأبناء أخي الشهيد عمّار، وعدد من الفروع أوالأحفاد كما الكثرة من أحباء وأصدقاء شقيقي الأسير المحرّر (اليوم) ياسر، وهو ذات الحال مع كافة الأسرى بحيث أن الزحام كان على أشدّه لم يترك لك حرية الحركة، أو النظر حتى من فوق رؤوس الناس.
أنا بالعادة لا أحب الازدحامات أصلًا، وأتجنبها حتى في المناسبات العمومية مثل الأفراح والأتراح والى ذلك فإني أتجنب وقوع سيارتي في مصفّ أو مكان قريب مزدحم فأضعها في مكان بعيد جدًا! وإن كنتُ أول الواصلين لعملي منذ السادسة صباحًا.
إلا أن هذا اليوم مختلفٌ.
إنه يوم الحرية، يوم الأبطال، يوم الشموخ هو يوم تحقق حلم طال واستطال واستفاض على جوانبه عبر السنين حُزنًا ثم كمدًا ارتبط مؤخرًا بحجم الشهداء الضحايا في فلسطين عامة، وفي غزة الأبية وشعبنا الفلسطيني فيها خاصة، والتي فقدنا فيها ما يقارب المائة ألف أو المائتين من أشرف وأنبل وأجمل خِلقَة صنعها الرب على هذه الأرض.
إنهم الفلسطينيون.
الفلسطينيون هم الذين كتبوا تاريخ المنطقة وتاريخ فلسطين منذ مليون عام، وأقاموا الحضارات الكبارية والناطوفية مرورًا بالعصر الحديدي (منذ 20 ألف عام) قبل أن تفترض الأساطيرالتوراتية فترة لا قيمة لها من التاريخ أنها وجدت هنا. مع كثير رفض من كل ذرّة رمل لهذا التاريخ الخرافي والأسطوري فلم تصرّح أي قطعة من أرض فلسطين بوجود غير العرب الأصليين بكافة مسمياتهم هنا، وبكل أجزاء الجزيرة العربية التي نحن (بلاد الشام) نمثل فيها شمال الجزيرة.
جيئةً وذهابًا بالمساحات الضيقة وبين الأجساد المتراصة ازدحامًا كانت الأفكار تترَى، فهي زادٌ لمن لازاد له.
ياسر في الكويت وياسر في بغداد وياسر في جامعة النجاح وياسر شاهرًا علم فلسطين في وجه الظلم والمحتل، وياسر وأمه، وهو وزوجه، وياسر أسيرًا ل23 عامًا حتى هذه اللحظة المنتظر بها كسر المؤبدات الثلاثة والأعوام الاربعين والشهور الستة من محكومية الظلم الصهيوني واللاقانون المُسلط على رقاب الأمة من نحر فلسطين.
كانت تدهمني شتى الأفكار الأخرى
وأنا في حالة الانتظار، أتنقل بين الحشود المتزاحمة، تارة داخل المجمع الترويحي وتارة في الشارع شارع جاك شيراك، وصولًا الى شارع حيفا المتقاطع وشارع عين سمعان.
وفي تارة أخرى في المنطقة الترابية القريبة، لا أدري كيف سيكون شعوري أو كيف سأقابل مَن كان بعمر الورد ليعود رجلًا شديد العود! نعم لكنه مع خصلات الشيب والصلع (كما أصابني قبله) قد يعطي الانطباع بخبوّ الحياة فيه، أو كُمون الأمل أولربما فقدان الحلم!
العشراتُ من الصحفيين ومثلهم من قمرات (كاميرات) التصوير تهمّ بعمل المقابلات مع الأهالي، وما كُنتُ منهم الا الرافض، فلم أرى بالحدث أن أكون فيه البارز، والأبطال الحقيقيون قادمون.
بعد تعب شديد وانتظار مفزع للنفس، وأفكار تروح وتجيء وتناقل لأخبار بين الناس بوصول الحافلات الى الشارع الفلاني من مدينة رام الله، ثم الذي يليه محفوفًا بالجماهيرالصاخبة يترقب الناس ساعة الوصول بشغف.
حلّ علينا الفجرُ من عتمة النفس متأخرًا
وكأنه كان يعبثُ بليل سخيّ مع صديق كريم أو زوج رحيم أو مستمعًا لصوت رخيم! فنسي موعد الإشراق حتى التقى بالأسرى الذين أبوا إلا أن يصحَبوا الفجرَ معهم فكانت الإطلالة المهيبة لفوج المحررين من عمالقة الصبر.
تنقلت بقدميّ بين الشوارع والمجمّع، وبنظري وأشتات روحي بين الحافلات الثلاثة ورأيت كل أم أو أخت أو أبن أو صديق حكيم، أو زوجة أوابنة تنظر حبيبها تصرخ وتهمّ، أو تبكي وتلمّ الحبيب الى صدرها، مقبّلة بين الضلوع والرؤوس والأيدي، فيما الآخرون فوق الأعناق أو بين الحشود يتّقون سيلَ القُبلات للأجساد الهزيلة التي تشبه الهياكل العظمية (مما أصابهم من تعذيب شديد حتى اللحظات الأخيرة لركوبهم الحافلات كما علمنا لاحقًا)!
لم أتعرف على شقيقي ياسر!
وبالأحرى لم أرهُ حين خرج من الحافلة أساسًا، ولربما كان ذلك رحمةً!
لأنني لو رأيته بعينيّ أنا لما عرفته للوهلة الاولى!
بل رأيته أولًا على قمرة (كاميرا) أحد الأصدقاء من الاعلاميين حين قال لي أرأيت أين ذهب ياسر؟
قلت له وأين هو، لم أرهُ أصلًا!
فأراني صورته بقمرته مرتديًا ثوب العظمة رغم الهزال الشديد (علمت منه لاحقًا أنه فقد من وزنه بالمحنة الأخيرة 50 كيلوغرام).
دخل ياسر دون أن أراهُ من بين الحشود الى القاعة الداخلية لمجمع رام الله الترويحي وعندما هممتُ بالدخول للقاعة الداخلية نصحني الجميع بعدم فعل ذلك لأن الازدحام فيها خانقٌ جدًا، وأشاروا للانتظار حين خروجه والأسرى المحررين من القاعة الى الساحة إما الى بيوتهم، أوالى سيارات الاسعاف باتجاه المستشفيات لفحصهم.
خرج ياسر مدفوعًا بسرعة التزاحم والحركة من القاعة الداخلية الى ساحة المجمع.
رأيته يضحك!
رأيته يبتسم برحابة، ومازالت ذات الابتسامة منذ 23 عامًا كما هي لم تتغير!
ابتسامة الحرية.
الحشود تتدافع وتدفعه الى الأمام...
فصرختُ بكلّ كياني: ياسر
فعرف صوتي رغم انكسار السنين، واختلاف النغمات فالتفتَ إليّ سريعًا من بين التدافع والتزاحم الشديد...
فازداد ضياء حين نظر بوجه السمح المِرحاب
ومال لي، قبّلته مثنى وثلاث ورباع، على عجل.
ومضى الى سيارة الإسعاف حيث صحبه عاهد ابنه البطل، وزوجته نغم الخياط المرابطة الصابرة وأخته زينب الى المستشفى الاستشاري في منطقة الريحان المجاورة لرام الله.
كانت ليلى زوجتي، وميساء وليان ابنتيّ قد سبقتاني الى المستشفى والتقين جميعًا به في غرفة الطواريء، حيت رتّب عاهد ابنه المغوار الفحوصات المختلفة، فتريثت للوصول الى هناك مفترضًا أن أجلب معي بعض المعجّنات السريعة والحلويات لأفاجأ حين الوصول اليه محتضنًا البطل المحرّر أنه تحت الاشراف الطبي لا يجوز أن يأكل لفترة معينة نتيجة سوء التغذية في المعتقل ولضرورات طبية أخرى والاكتفاء بالسوائل والعصائر.
المفأجاة اللاحقة أن الأسرى ولفترة طويلة جدًا من سوء التغذية مُنِعوا عن الفواكه فكان يشتهيها ما علمته لاحقًا، وكنت قد كدتُ أهمّ بشرائها فلم أفعل! لأنني وجدتها لا تليق بالمناسبة في فهمٍ قاصر عن متطلبات الأسير، أو الغائب أوالموجوع أو المريض سيان.
هناك فقط أي في قاعة الطواريء من المستشفى الاستشاري برام الله نظرتُ اليه ، وتأملته جيدًا: بناءٌ جسمي ضخم (هكذا كان) طويل مفرود الظهر(هكذا كان) قد استحال بهزاله الى عظام نافرة أكثر منها لحم يكسوعظمًا.
في غرفة الأشعة بالتحديد التقينا دقائق بين القبلات على اليدين والرأس والأحضان، وبضعة كلمات مثلت زمنًا طويلًا من عتبات لم أكن أقربها أبدًا، كي لا أحبط أو أصدم! أي عتبات الشوق ونزيفُ الروح الذي صاحبني وكل أحبائه وأصدقائه الكُثُر بما لا يسعنا من ألم وترقب، وحلم بدى مستحيلًا!
تحقق الحلم أخيرًا.
ياسر أبوبكر حُرًّا.
لم تقصّر محافظة رام الله والبيرة الاهتمام الرائع بالأسرى ومنهم الأسرى المحررين وكذلك نادي الاسير وهيئة شؤون الأسرى وكافة طواقم عمل السلطة الوطنية الفلسطينية المدنية والامنية فكانوا على مدار الساعة يتابعون الحدث، ومنه أن قامت المحافظة برئاسة الأخت ليلى غنام بحجز غرف في فنادق رام الله للمحررين من الأسرى ليبيتوا ليلتهم راحة بعد سنوات طوال كانوا يفترشون فيها الأرض متمنين رؤية سماء الحرية ونور الاشتياق وزهور فلسطين.
وفي نفس الوقت لأن رام الله وكل القرى والمدن مغلقة ومسوّرة ومحاصرة ب898 حاجز وبوابة حديدية (زاد عددها منذ المباغتة في 7/10) تفعّل ليلًا بشكل محكم أكثر من أوقات الضياء، وفي أحيان أخرى بلا أوقات محددة فأحالت حال الناس بالضفة الى جحيم، وفي غزة الى جحيم مقيم آخر.
لا ننسى الشكرَ كل الشكر-وهذا مقام شكر لا مقام اختلاف- لكل من ساهم بإخراج الأسرى من ارتهان يومهم وليلهم للسجان، ممن نُحبهم وإن خالفناهم بالرأي، شكرًا لكم كل الشكر.
شكرًا لهم، وندعو لهم وإن انتقدناهم بحق النقد وسنواصل.
نتمنى لهم فسيح الفكر لا ضيق الأفق، وبسط اليد لا قبضها، وسِعة الصدر لا التحجّر الفكراني (الأيديولوجي)، والاعتراف لا الانغلاق. ونتمنى لهم تفعيل معنى المحبة للمختلِف لا لفظه وتشويهه واتهامه وتكفيره أو تخوينه، كما نتمنى لهم رفع مشعل الوحدة والوطنية وبسط الوجوه إزاء الاخوة لا إدارة الظهر، والله المستعان.
في الفندق حيث انتقل ياسر بسيارة الاسعاف بعد الفحوصات أدخلته إدارة الفندق لغرفته المحجوزة، وتم إغلاق حالة الوصول اليه من الثالثة عصرًا حتى السابعة مساء أين تم فتح قاعة الاستقبال في الطابق الأرضي من الفندق لنشهد فيها وجوه المحبين النيّرة يحفوّن بياسر رسميًا وشعبيًا، وحركيًا ومن الكوادر الوطنية كافة.
لم تعتد أمّه على فراقه طويلًا، وهي التي واظبت قبل أن يُقعدها المرض على زيارته بالمعتقل، وكما زوجته المعطاءة، وذلك كلما سنحت الفرصة مع معيقات السجان الكثيرة.
والدته اليوم لم ترى اللحظة التي انتظرتها طويلًا، فهي هناك في الأردن لم يطلها من رؤيته المباشرة إلا الاتصال المرئي، وحنفية الدموع التي انهمرت لرؤيته عن بُعد.
لم تستطع أخواته وأخوته الأشقاء خارج فلسطين أن يروه بالطبع وكذلك ابناؤهم والأحفاد، والأصدقاء بالخارج، ولم يستطِع شقيقة عمار الذي استشهد في مدينة جنين، بذات فترة اعتقال ياسر في نابلس عام 2002 أن يراهُ فهو أي عمّار اليوم جسدٌ مسجى تحت الثرى في مقبرة جنين، بينما دماغه الذي وجدوه بعد بضعة أيام وعرفوه من طاقيته قد دفن مع أبيه وعمّه في قرية رمانة من قرى محافظة جنين، أخت مدينة حيفا بلد والدنا محمود علي أبوبكر، وبلدنا.
كنت أفكر كيف أننا كأخوة نحتفظ بالأسماء الاسلامية والوطنية معًا ما يجعل من الاسلاميين والوطنيين (أو القوميين) قميصٌ واحدٌ بالحقيقة، وهو ما ارتدته الحركة التي انتمينا اليها من أجل فلسطين، وما مزّقه الا الحزبيون الاقصائيون المتفيقهون، ففينا كأبناء الفهيم المبدع محمود أبوبكر كل من: بكر وعلي وعمر، وفينا ياسر وعمار وسعد. غير الأخوات بذات الاتجاه. وما الشعب العربي الفلسطيني الا نسيج مسلم ومسيحي واحد ضمن حضارة جامعة لا تفرق ولا تُقصي.
قال تعالى (وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ) (البقرة 155-157)
"لن نفرح ولن نحتفل" هذا ما قاله شقيقي ياسر وكرّره، مضيفًا "وكيف لنا ذلك في ظل الأكرم منا جميعًا (أي الشهداء) الذين ارتقوا في سبيل الوطن في قطاع غزة وبالضفة رحمهم الله أجمعين، ورحمنا معهم".
هكذا قال معبرًا رافضًا كل مظاهر الاحتفال، أو الفرح المبالغ فيه، احترامًا وتقديرًا وحزنًا على من شاء أن يكرّر وصفهم (الأكرم منا جميعًا) في رؤية عميقة، وفهم يتخطى الزمن حينما تختلط المشاعر وتتقاتل بتناقضاتها في مساحة واحدة لا تعرف أيها تختار، فكان من المهتدين، وكان صهيل الفرح المرّ.
لقد اختار هو من المشاعر المتدافعة حق الآخرين على حقه، فكان في صهيل فرحه المرّ يستحضر الحزن العظيم، والتقدير والاحترام المطلوب لارتقاء الشهداء، والمواساة لنجاة الناجين من المقتلة أوالمَهلَكة في قطاع غزة المنكوب أساسًا، مقدمًا على الفرح الفائض حتى فرح أسير المؤبدات، وعلى فرجٍ وفرح قد بدا في كثير من الأحايين بعيدًا. و"الله غالب على أمره"، و (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ۗ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (النمل 59).