أرخبيلات وجزر الضفة الغربية: خُطط لها أن تكون
الكاتب: د. بدر زماعرة
أن تستيقظ مبكرًا لتبدأ يومك بنشاط وحيوية، مستعدًا لإنجاز ما يصعب إنجازه في أي وقت آخر من اليوم، هو أمر يستحق الاحتفاء. ففي الصباح تُزرع البدايات، وتُكتب النجاحات، وتُوزع الأرزاق. لكن ماذا لو كان هذا الاستيقاظ المبكر ليس اختيارًا، بل إجبارًا؟ ماذا لو كان سببه واقع احتلالي قاسٍ، فرض عليك قيودًا صارمة من إغلاقات وحواجز تقطع أوصال حياتك اليومية؟ حينها يتحول الصباح من مساحة للأمل والإنجاز إلى تجربة قهر متجددة، حيث يبدأ يومك بمواجهة شوارع مغلقة ونقاط تفتيش تستهلك وقتك، حريتك، وحتى إنسانيتك. هذا هو الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون في ظل الاحتلال، حيث تتحول أبسط تفاصيل الحياة اليومية إلى معركة بقاء أمام قيود تفرض نفسها على كل جانب من جوانب حياتهم.
فبعد ان كان الطريق في الماضي يستغرق اجتيازه نصف ساعة، أصبح اليوم رحلة مرهقة تمتد لثماني ساعات أو أكثر. في هذه الرحلة، لا تسير عقارب الساعة ببطء فحسب، بل تذوب الأعصاب بين اختناقات مرورية خانقة، وتفتيشات دقيقة لا تنتهي، وانتظار طويل يخلو من أي أفق أو يقين. إنها تجربة يومية تختزل معاناة مستمرة وواقعًا يفرض نفسه على كل خطوة وخيار.
الإغلاقات ليست وليدة اللحظة، بل هي سياسة ممنهجة بدأت منذ سنوات طويلة بتقطيع أوصال المدن والقرى الفلسطينية، هكذا خطوة بخطوة، حتى أصبحت الضفة الغربية أشبه بأرخبيل من الجزر المنفصلة، بل في الحقيقة هي سجن مفتوح محاط بالحواجز والبوابات والأسلاك الشائكة.
في الواقع، أدرك الفلسطينيون مبكرًا أن هذا الواقع القاسي ليس سوى محطة حتمية على الطريق، وأن الوصول إلى "عنق الزجاجة" في الضفة الغربية كان مسألة وقت لا أكثر. اليوم، أصبحت الحركة بين المدن شبه مستحيلة، والعزلة المفروضة هي السمة الأبرز لهذا المشهد، في صورة تختزل تعقيدات الاحتلال ومعاناة يومية لا تكاد تنتهي.
تعيش الضفة الغربية حالة شلل شبه كامل، حيث تجاوزت نسبة الإغلاقات 85٪، اليوم لا يمكن أن ترى مخيمًا أو قرية أو بلدة أو حتى مدينة دون بوابة أو حاجز احتلالي، لم تعد الحياة اليومية تسير بشكل طبيعي، فالسفر إلى العمل أو الجامعة أو حتى زيارة الأهل تحول إلى تحدٍ شاق، بات الفلسطينيون يقضون على الحواجز وقتًا أكثر مما يقضونه في منازلهم. مشهد مرعب يتكرر كل صباح: طوابير طويلة من السيارات، عيون مترقبة، أعصاب متوترة، ومحاولات يائسة لسرقة لحظة من النوم في سيارة متوقفة على حاجز لا يُعرف متى سيفتح، لأنه مرهونٌ بمزاج جندي احتلالي.
اللافت أن هذه الإغلاقات ليست مجرد إجراءات أمنية مؤقتة، بل هي جزء من خطة مدروسة تهدف إلى تحويل الضفة الغربية إلى مجموعة من “الأرخبيلات” المنفصلة، بحيث تصبح كل مدينة أو قرية محاطة بحواجز وجدران تعزلها عن محيطها، مما يؤدي إلى تفكيك النسيج الاجتماعي والاقتصادي الفلسطيني، وتحويل حق التنقل إلى امتياز مشروط بإرادة الاحتلال.
أما قانونيًا، فهذا الواقع المفروض بالقوة يشكّل انتهاكًا صارخًا لأبسط قواعد القانون الدولي، لا سيما وأن "لكل فرد حق في حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة” كما جاء في المادة (13) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أما المادة (12) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية فكفلت "الحق في التنقل دون قيود تعسفية". ومع ذلك، فإن الإجراءات العسكرية الإسرائيلية، من إغلاق الطرق ونصب الحواجز الدائمة والتفتيشات المذلّة، تحرم الفلسطينيين من هذا الحق الأساسي، مما يعزز سياسة العقاب الجماعي المحرّمة بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر فرض تدابير تقييدية جماعية على السكان المدنيين.
تحت ضغط هذا الواقع القاسي، تحوّلت أبسط احتياجات الحياة إلى رفاهية بعيدة المنال. الطلاب يفقدون حصصهم الدراسية، المرضى يتألمون على حواجز لا تأبه بحالتهم، والأسر تعيش انفصالًا قسريًا بفعل الحواجز التي تعيد تعريف المسافات والعلاقات. أمل العيش بكرامة في الضفة الغربية يتضاءل يومًا بعد يوم، فيما يستمر الاحتلال في إحكام قبضته على كل حركة، ليبقى الفلسطينيون سجناء في مدنهم وقراهم، ينتظرون الفرج عند بوابة صفراء قد تفتح… أو لا… ولكنه ببساطة احتلال!