أقل الكلام
الكاتب: " د. ابراهيم ملحم "
# في فقه الانتصار وامتداح السلام والسيادة على الركام! #
في العدوة القصوى، يعترف أصحاب الغطرسة والقوة الباطشة بالفشل في منع وقوع السابع من أكتوبر، ويعلن قائد جيش الإبادة استقالته، ويشكل لجنةً للتحقيق في أسباب القصور والفشل الخطير.
وفي العدوة الدنيا، تخفق رايات الانتصار، ويتنافس المنتصرون على من تكون له السيادة على الركام، وهو نصرٌ يُخفف من جريمة الإبادة، التي عُقدت لها محكمةٌ أصدرت مذكرات توقيف بحق المجرمين القتلة، مثلما يكتم أنفاسَ مَن تُسوّل له نفسه انتقاد المقامرة.
درجت العرب على قلب الحقائق، إذ تصف الأعمى بـ"أبو بصير"، والأعور بـ"كريم العين"، والمريض بـ"المعافى"، وسمّينا هزيمة حزيران "نكسة"، وهي توصيفاتٌ مخادعةٌ تُخاصم الحقائق الموجعة.
تُزيّن العرب القبح، وتمتدح التأخير بالقول: "كلّ تأخيرةٍ فيها خيرة"، وهي محاولةٌ لإنقاذ المتأخرين، وتشريع مثلبة التأخير، وتحويلها إلى محمدة، فليس على المتأخر حرجٌ حتى لو تسبّب تأخّره في تخريب البلد، تماماً كما أبدع الكُتاب المصريون في نقد الأخطاء؛ إذ يقول الموظف الصغير في محاولةٍ للتملق إلى رئيسه إذا وقع في خطأ كبير: "أخطاء سيادتك بتزُؤ البلد للأمام يا فندم!".
لا ينتقص النقد من فرادة المشهدية الأكتوبرية وجسارتها، وهي ما قال عنها رئيس الأركان المستقيل هرتسي هليفي إنها "ستصاحبه طيلة حياته"، لكنّ فرادة المشهدية لا تمنحها الحصانة ولا القدسية، ولا الحق في ممارسة الدكتاتورية على طريقة "لا أُريكم إلا ما أرى".
العبرة بالخواتيم والمآلات. فقد مُسحت الحياة من غزة، وتبددت أحلام الغزيين، وتعمّقت أحزانهم بفداحة الفقد لأحبتهم، وعادت حياتهم إلى عصر القبيلة والخيمة، بينما يرتفع خطاب النصر في وجوههم على أسنة الرماح، ليعطّل فضيلة النقد والمراجعة والتقييم لتجنب المغامرات وتكرار الذهاب إلى عدمية الخيارات.
ما ينسحب على أصحاب "الطوفان" ينسحب على أصحاب "سلام الشجعان"، فكلٌّ مغرَمٌ بمنجزه، ويُعلي من شأنه، فقد حسبه الظمآن ماءً قبل أن يراه استيطاناً متوحّشاً في الضفة، وأرضاً يباباً بلقعاً في غزة، فيما لم يقدّم أصحاب "الطوفان" البديل عن السلام، وإلا فما الحاجة إلى الانقلاب عليه، إن لم يتم تقديم ما هو أفضل منه.
لا يُسمى الانتصار انتصاراً إلا إذا تمّ تجيير التضحيات الجسام إلى مكاسب سياسية، تجعل ما بعد الطوفان أفضل مما كان قبله، وإلا فإننا نسأل الله العليّ القدير أن يكون الطوفان آخر أحزاننا، وخاتمة انتصاراتنا!